فرنسا الرجل المريض

فرنسا الرجل المريض

A- A+
  •  

    لم يكن حتى أبعد المتشائمين يتصورون هذا الانحدار الذي وصلت إليه الدولة الفرنسية منذ الولاية الأخيرة للرئيس إيمانويل ماكرون، فقدت فرنسا الكثير من بريقها في الداخل كما في الخارج، بسبب تلاقي عوامل كثيرة أهمها فقدان صناع القرار للبوصلة سواء في إدارة موقع فرنسا الأساسي والقوي داخل أوروبا أو في مستعمراتها القديمة أو في موقعها الوازن في قلب اللعبة الجيوستراتيجية لعالم ما بعد كورونا.
    لقد ظل الاحتجاج هو الخبز اليومي للفرنسيين في بلاد الثورة والديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن الاحتجاجات الأخيرة، فقدت الكثير من بريق الاحتجاج المدني السلمي وحملت مؤشرات خطيرة قد تؤدي إلى تفكك رموز السيادة الفرنسية، فعلى عهد ماكرون كانت احتجاجات التقاعد تعبيرا عن سخط الطبقة الوسطى التي شكلت عاملا كبيرا في انتخابه لولاية ثانية، و شلت حركة إضراب المتقاعدين كل الأنشطة المركزية للإنتاج وعطلت دورة كاملة للخدمات، وأضاعت ملايين ساعات العمل المفقودة زمنا ثمينا في اقتصاد بالكاد كان يستعيد عافيته بعد شلل الجائحة، وقبلها كانت احتجاجات السترات الصفراء، إيذانا بصعوبات الاندماج وإقصاء الضواحي من السياسات العمومية، وجيل جديد يعاني البطالة والفقر ومن العنف وخطاب الكراهية والعنصرية النظامية، وها هي الاحتجاجات على مقتل الطفل نائل تفجر ما تبقى من كتلة تشد بنيان سيادة الدولة باستهداف رموز المؤسسات العمومية وعدم الثقة في الشرطة واعتبارها عدوا مهددا للسلامة الجسدية بدل وظيفتها الطبيعية كضامن للأمن والاستقرار وحفظ النظام العام.. وكما كتب نيكولاس بافيريز، المحامي والكاتب الفرنسي، في مقال رأي له بصحيفة “لوفيغارو”، فقد أصبحت فرنسا ماكرون الرجل المريض في أوروبا، واعتلالها يمس بنيان تفكك السيادة ويمس بقوة سياسات الإقصاء الاجتماعي والثقافي في دولة ظلت رمزا للقيم التنويرية الكونية ومثالا للاندماج بين هويات وثقافات وجنسيات في قلب المجتمع الفرنسي..
    لقد أحسسنا في احتجاجات السترات الصفراء وعنف التخريب الذي صاحب الاحتجاج على مقتل الطفل نائل، كما لو أن فرنسا على شَفَا حرب أهلية مدمّرة، احتجاجات وضعت الضمير الأخلاقي للدولة في قلب المساءلة والشك لدى المواطن الفرنسي ليس فقط من المقصيين والمهاجرين أو الضواحي التي تسودها قيم أخرى هي غير قيم الجمهورية، حشيش ومخدرات ودعارة وكوكايين وخمور وعنف متنامي، لقد أثبتت سياسة إيمانويل ماكرون والدولة العميقة المتحكمة في صناعة القرار الفرنسي، خاصة في الولاية الثانية، حماية مصالح فئات ضيقة في المجتمع الفرنسي، وتخليها عن القيم الكبرى للجمهورية الفرنسية. وهنا الانتعاش الأكبر لليمين المتطرف الذي أصبح يجد طريقه سالكة إلى فرنسا بشكل ملفت للانتباه بل ويبدو كما لو أنه أصبح مدعوما من طرف جزء كبير من المجتمع الفرنسي، وهو ما يمهد لانشطار المجتمع بسب التفكك التدريجي للقيم التي نشأت عليها الدولة الفرنسية..
    كان يمكن للأزمة الحالية التي تعرفها فرنسا أن يلتقط من ورائها ماكرون الإشارة ويساهم في إعادة اللحمة للمجتمع الفرنسي والثقة للمواطنين، كان ممكنا أن تشكل هذه اللحظة الفارقة في الزمن الفرنسي فرصة سانحة لكي يتعلم ماكرون من كل أخطائه ويشكل رمزا للعودة لهبة الدولة وتمتين العلاقة بين المواطن الفرنسي ومؤسسات الدولة، لكن افتقاره وفريقه إلى رؤية بعيدة المدى، يجعله بعيدا عن أن يصنع له قدرا جديدا واسما بطوليا لوحدة الفرنسيين، وحاملا لاستراتيجية تجديد الاندماج في المجتمع الفرنسي والتأكيد على قيم الجمهورية النبيلة، لا فقط إعادة الهدوء للشارع العام وفرض الاستقرار بقوة، إذ لا شيء يمنع من أن تتسبب شرارة واحدة في إضرام النار في كل الهشيم الذي خلفه الرئيس الفرنسي وراءه.

  • المصدر: شوف تي في
    تعليقات الزوّار (0)

    *

    التالي
    المهندسون يهاجمون الرميلي ويؤكدون أن 90%من ملفات التعمير محتجزة في”دار الخدمات”