في اليوم العالمي للفلسفة .. وليس دفاعا عن الفلسفة

في اليوم العالمي للفلسفة .. وليس دفاعا عن الفلسفة

A- A+
  • لا تحتاج الفلسفة لمن يدافع عنها، أو يتكلم باسمها، لأنها أولا وقبل كل شيء، دعوة مفتوحة للكائن البشري أينما كان وكيفما كان إلى إعمال عقله، لترتيب العلاقات بين مقتضيات التاريخ والمجتمع والعالم والذات، ودعوة أيضا إلى نقد العقل بما هو ميكانيزم ذاتي يستطيع تحقيق التوازنات الموضوعية، ويقدم التفسيرات المعقولة زمنيا في التاريخ، وييسر للأفراد عمليات التبادل المتاحة والممكنة للأفكار والممارسات في إطار معقلن تحت إسم التعاقد.. وأيضا لا تحتاج الفلسفة إلى من يدافع عنها لأنها كفيلة لوحدها بالدفاع عن نفسها بقوة التاريخ والواقع.
    يأتي هذا الكلام ليس من باب ادعاء الأفضلية في الدفاع عن قضية ليست قضية أصلا بالمعنى المنطقي للكلمة، وقد يكون لهذا الدفاع وجاهة أخلاقية وسياسية -تكتيتية مع الخصوم والأغيار الذين يخشون على مصالح غير مرئية -على الأقل- على مستوى الواقع والمجتمع، ويحاولون جاهدين إعادة صياغة ترتيب العلاقة بين السماء والأرض، بعد أن ظننا أننا تجاوزنا هذه المرحلة بقرون، لكن للنكوص آلياته وطرقه في تكريس تبعية الأرض للسماء بكل ما تحمله كلمة التبعية من معنى اللا إرادة واللا إعمال للعقل، والاكتفاء بالتفسيرات الحرفية للنصوص المؤسسة لمثل هذه القوى المقاومة للتغيير والتقدم حثيثا بالإنسان كاملا بدون أدنى مركب نقص. مع أنهم وبصيغة أخرى –مناهضو العقل- يستعملون العقل الأداتي والحسابي عند تقديمهم لتلك التفسيرات.
    ولعل إلحاح من صاغوا كتاب مقرر التربية الإسلامية للأولى باكالوريا، تضمين ذاك المقرر نصوصا لمفكرين إسلاميين، يروجون لفكرة “الفلسفة مادة الزيغ والضلال” لم يستحضروا الشروط التاريخية التي أفرزت مثل هذه الأحكام، ولا مصلحة لهم من تذكر أن في تلك اللحظة كانت الفرق الكلامية الإسلامية بمختلف تلاوينها ومرجعياتها الفكرية والإيديولوجية تتمتع بحرية التفكير ومقارعة الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة، وما نتج عنه من ثراء فكري وثقافي حينها، يستحيل إحياؤه اليوم، بدل التكفير المجاني ورمي الآخرين بالغيب وإدعاء امتلاك الحقيقة الواحدة والوحيدة كما يفعل هؤلاء المدعون اليوم، ولو علم المفكرون الأكثر راديكالية والأكثر شراسة الذين هاجموا فكرة “تقديم العقل على النقل” ومن بينهم ابن تيمية وأبي حامد الغزالي، ما سيؤول إليه الأتباع من ركود وتمييع وتجهيل ما تفوهوا بذلك الكلام حينها..
    لكن للتاريخ مكره، ولتعطيل العقل مسبباته الدوغمائية، وكسله في تأجيل كل ما هو لحظي وزمني إلى الما بعد، ما بعد الموت ما بعد الحساب ما بعد الجنة ما بعد الاستشهاد ما بعد ما بعد..
    والحال أن الفلسفة في بلادنا – العربية الإسلامية- سيئة السمعة منذ قرون، وهذا الأمر ليس بالغريب، في مجتمع يتخذ موقفاً عدائياً من العقل، ويطمئن أقصى غايات الطمأنينة للخرافات. فعموم الناس – كما يقول الباحث علي حسين- في بلادنا لا يتفقون على شيء، قدر اتفاقهم على الشك في الفلسفة وقيمتها وجدواها، والفيلسوف بالنسبة لهم، رجل “سفسطائى” –بالمعنى القدحي للكلمة- ثرثار، أو حالم ملازم لبرجه العاجي بعيداً عن الواقع العملي الملموس، وإذا أحسنوا الظن به في أرقى الحالات، فهو متخصص فى المجرد والعام. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإننا لا نكاد نعرف اسماً لفرع من فروع المعرفة قد أصابه ما أصاب الفلسفة من عداء وتندر واستنكار عند الكثرة الغالبة من الناس، ولذلك كثيراً ما نسمع العبارة الآتية تتردد في حياتنا اليومية : “وبلا فلسفة”.
    وذلك ناتج عن الجهل بمعنى الفلسفة، الذي جعل العبارة السابقة تتردد على لسان جمهور العامة، كما أن الجهل بمعناها جعل لفظ الفلسفة يرتبط فى أذهان الناس بمفاهيم هى أبعد ما تكون عن روح الفلسفة الحقة، واللافت للنظر-يقول علي حسن- ” أن الرجل العادي لا يقول للمتخصص في الرياضيات “و بلا رياضيات”، ولا يقول للمتخصص في الطبيعيات: “وبلا طبيعيات”؛ لأن الرجل العادي يدرك أنه لا علم له بالرياضيات أو الطبيعيات. أما فيما يتعلق بالفلسفة، فهو يعتقد خطأً أنه يعرف معنى الفلسفة، في حين أن جهله بالفلسفة لا يقل على الإطلاق عن جهله بالرياضيات أو الطبيعيات”.

    هذا الوضع السيئ والرديء الذي تعاني منه الفلسفة في تصورات وتمثلات الناس البسطاء والعاديين، وهو أمر مفهوم من الناحية التاريخية والسوسيولوجية، فكيف بالأمر في مؤسسة تعليمية، حري بها أن تكون سباقة إلى التنوير ونزع غشاوة الجهل وتصحيح ما يسوء فهمه في الشارع والمجتمع!

  • إن هذه الورقة لا نقصد من خلالها التحامل على جهة معينة ولكن، لنلق نظرة على تداعيات هذه اللخبطة بين ما جاء في مقرر التربية الإسلامية وما تدعوا له دروس الفلسفة في مستويات الثانوي على التلميذ داخل القسم الدراسي، وعلى المنظومة التعليمية عموما.

    فمن بين المآزق التعليمية التي يمكن أن يتعرض لها المتعلم خصوصا في سن حرجة لدى التلميذ، يتفق على تسميتها الباحثون في مجال التربية وعلم النفس، بالمراهقة، وهي مرحلة تتسم بالتوتر وتراكم الأسئلة المؤرقة تجاه ذاته أولا والمجتمع والعالم ثانيا وثالثا، وكيف له في خضم هذا الاضطراب الناتج عن البلبلة والتشويش في تقديم المعارف ومناهج التفكير، فمادة التربية الإسلامية تحثه على عدم إعمال العقل، أو على الأقل –في أحسن تأويل- تواري العقل أمام النقل، فهو” أس الانحلال، ومادة الزيغ والضلال” وعليه أن يحفظ عن ظهر قلب هذه القاعدة لأنه متابع بان يمتحن حولها، ويحصل على نقطة تقييمية لما تلقاه بالمادة.

    وبين دروس الفلسفة التي تعتمد كل الاعتماد على تحريك ملكة العقل، وتربي فيه الحس النقد أساسا، الذي لا يقبل بالمعطى والجاهز، ويشكك حتى في البداهات، حتى يتسنى له إعادة ترتيبها وتنظيمها وبناءها، بل تدعوه إلى فهم العقل وانتقاده، بما يفتح له من إمكانيات التفكير الحر البعيد عن التقديس والصنمية لأي حقيقة كيفما كانت، وهو متابع أيضا بأن يمتحن في دروسها وينتظر نقطة تقييمية لها.

    إنه أمر مربك ومضطرب طبعا، ليس للتلميذ وأساتذة المادتين فقط، وإنما للمنظومة التعليمية بكاملها، والتي لا تحمل إزاء هذا الوضع من معنى المنظومة إلا الاسم، لم يعتورها من ارتباك وعدم انسجام وتماسك وتهاوي على مستوى الصياغة والبناء.

    وهو ما يدفع الى التساؤل حول كيفيات صياغة البرامج المدرسية، ويوضح بشكل بارز غياب أي تنسيق بين الفاعلين البيداغوجيين القائمين على إعداد تلك البرامج، وهو ما ينعكس سلبا على جودة المادة التعليمية المقدمة عموما…

    ثم نتساءل لماذا وصل التعليم بالمغرب إلى هذه الدرجة من التردي والرداءة؟
    ألا يعلم أولئك الذين يسيئون الظن بالفلسفة، عن عمد في بعض الأحيان وعن جهل في أغلب الأحيان أن الفلسفة في أحد تعريفاتها هي محبة الحكمة، وأن كل التعريفات المتعددة التي أعطيت للفظ فلسفة على مر العصور لم يكن من بينها تعريف واحد يربط بين الفلسفة من جانب والجهل والبلاهة أو الغموض من جانب آخر ؟!

    ثم إن القيام باستقراء بسيط لتاريخ الفلسفة سيكشف بالملموس عكس ذلك، وأن عدداً كبيراً من الفلاسفة جعل من الفلسفة مرادفاً للوضوح والدقة والإحكام وفق ضوابط منهجية واستدلالية صارمة، تعليمها للتلميذ من شأنها أن تساهم في تكوين مواطن قادر على التمييز بين الواجبات والحقوق إزاء ذاته ومجتمعه ووطنه، بعيدا عن أي تعصب وحمية تنتصر للقبيلة في زمن قد ولى فيه الانتصار لهكذا أشكال مجتمعية في عالم صار ينعت بالقرية الصغيرة.

  • المصدر: شوف تي في
    تعليقات الزوّار (0)

    *

    التالي
    المتفرج الأمريكي يكتشف تاريخ المغرب الحديث من خلال فيلم “خمسة وخمسين”