بوح الأحد: سقطة تبون الرئيس اليوتوبورز، تصويت البرلمان الأوروبي وماذا بعد؟ ..

بوح الأحد: سقطة تبون الرئيس اليوتوبورز، تصويت البرلمان الأوروبي وماذا بعد؟ ..

A- A+
  • بوح الأحد: سقطة تبون الرئيس اليوتوبورز، تصويت البرلمان الأوروبي وماذا بعد؟ والجماعة التي لا تؤمن بالوطن وأشياء أخرى
    أبو وائل الريفي
     استوقفتني هذه الأيام حوارات للرئيس الجزائري وخرجاته الإعلامية غير المعهودة، في إطار حملة تواصلية يقودها محيط الرئيس لتجميل صورته من خلال الإعلام الأجنبي بعد أن عجز الإعلام الداخلي عن القيام بالمهمة رغم كثرة العناوين والمؤسسات الإعلامية وضخامة ما يصرف عليها ولكن افتقادها للمصداقية والمهنية جعلها بدون تأثير.
    تتزامن هذه الحملة التواصلية (حوار مع مجلة لوبوانLe point  ومع الجزيرة) مع دخول الجزائر المرحلة الأخيرة لانتخابات تشريعية مبكرة، بسبب إقدام تبون على حل الغرفة الأولى في فبراير، بغية فرملة الحراك الشعبي واستمالة الشباب للالتفاف على الاحتقان الذي تعرفه الجزائر والذي لم ينقص بعد أكثر من سنة على توليه الرئاسة.
    رهانات هذه الانتخابات كثيرة وأهمها استعادة ثقة مفقودة للشعب الجزائري الذي صار أكثر وعيا قبل أي وقت مضى بالكارثة التي أوصله إليها العسكر منذ عقود، وكذلك رد الصرف للمغرب الذي صار يشكل عقدة لحكام الجزائر وخاصة ملك المغرب الذي لا حديث لتبون إلا عنه ظانا أن التركيز على انتقاد الملك سيعطيه شعبية ويجعل الجزائريين يصرفون النظر عن إخفاقاته.
    تصريحات تبون التي لا تليق برئيس دولة، لم تمكن الرئيس المفتقد للشرعية الديمقراطية من تحقيق أهدافه ولو جزئيا. لقد كان يتصور أن الرد سوف يأتيه من مستويات عليا في المغرب، لكن المغرب لم يرد على “خاسر” بدرجة رئيس لم يجد العسكر غيره للقطع مع الماضي. وبالمقابل، تكفل الجزائريون من النخبة وعامة الشعب بالرد على الرئيس وكذب الرئيس وصفاقة الرئيس من خلال رفع شعار “تبون بَلَّعْ فُمَّكْ” لأن لا أحد يصدق رئيسا يكذب على الشعب. لا أحد يصدق رئيسا يمعن في سقط الكلام.
    تتزامن هذه الخرجات كذلك مع الورطة التي وضع فيها عسكر الجزائر الإسبان بتوريطهم في ملف استقبال زعيم البوليساريو بهوية مزورة، وهو ما أحرج الإسبان أمام المنتظم الدولي، ويريد من تبون أن يخفف الضغط عليهم بتركيز كلامه على المغرب، ولو بالاستعداء المجاني لجر المغرب للرد عليه والانشغال به عوض تركيز اهتمامه على اسبانيا وخروقاتها في هذا الملف.
    لذلك، لاحظ المتتبعون حرص الرئيس تبون على تبييض مرحلته ولو على حساب من سبقه، حيث كال التهم الغليظة لبوتفليقة ومحيطه مستعيرا لفظ العصابة من الحراك الشعبي لينعت سلفه ومحيطه به متجاهلا أنه جزء من ذلك النظام وأن لا قدرة لبوتفليقة على الاستمرار لولايات أربع بدون دعم العسكر وحمايته ومباركته. فلماذا لم يستطع تبون انتقاد العسكر كذلك وتحميله مسؤولية عهد بوتفليقة؟ لا جواب عن هذا السؤال سوى أنه أصبح رهينة للعسكر يأتمر بأوامر شنقريحة رئيس الأركان الذي خلف قايد صالح. هل يعقل أن يتحدث رئيس دولة بهذه الحدة عن سلفه؟ وهل يعقل أن يستعمل لغة العصابة لنعت عهد سابق لم تمض عليه سنتين؟ ولماذا لم يصدقه الشعب إذن لو كان صادقا فيفك حراكه الشعبي الذي لم توقفه تعديلات دستورية وحل البرلمان ووصف تبون للحراك بالمبارك وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة؟ ولماذا يتم التضييق على الحراك الشعبي السلمي طالما هو مبارك ويمنع المتظاهرون من التعبير عن رأيهم؟
    عبثا كان يحاول تبون تبرئة العسكر من مسؤولية التدهور الذي تعيشه الجزائر بسبب الإخفاق السياسي والاقتصادي والدبلوماسي والاجتماعي والصحي. وصار واضحا للجزائريين أن العسكر هو أكبر مشكلة في الجزائر. ولذلك فالحديث عن الفصل بين السياسة والاقتصاد وحده غير كاف في ظل تجاهل مطلب الحراك الرئيسي المتمثل في مدنية الدولة وعدم تدخل الجيش في السياسة. لماذا لم يكن رد تبون صريحا على أن الجزائر دولة مدنية ودور العسكر هو حماية البلاد فقط ولا دور له في السياسة والاقتصاد؟ ولماذا لم يحمل هذا العسكر، ولو جزءا يسيرا، من مسؤولية العشرية السوداء ومن مسؤولية استمرار بوتفليقة ومن مسؤولية الإخفاق الاقتصادي والاجتماعي؟ فتبون ليس إلا مبيضا لمرحلة سوداء يتحمل فيها جنرالات الجزائر المسؤولية.
    ولأن الجزائريين لن ينطلي عليهم هذا التحليل غير المتماسك وهذه الانتقادات غير الحقيقية لعهد بوتفليقة فقد كان يلزمه البحث عن عدو خارجي لتقوية جبهته الداخلية. ولن يجد تبون وشنقريحة غير المغرب.
    لقد كان مستهجنا القاموس الحربي الذي ينهل منه تبون أثناء حديثه عن جار وشريك معه في الاتحاد المغاربي، وهو ما فضح الطبيعة العدوانية لنظام لا يعي التداعيات السلبية لهذه المقاربة في ظل وضع إقليمي قابل لانتعاش خطاب الإرهاب فيه، وما يحدث في مالي مثال فقط. ولكن جنرالات الجزائر يجيزون كل شيء لاجتياز مرحلة حرجة كشفت فشلهم التدبيري ويبحثون لها عن شماعة.
    هل هناك ما يبرر تمسك تبون بإغلاق الحدود بين بلدين جارين؟ وهل هذا موضوع يستحق أن يلوي تبون بشأنه عنق الحقيقة ليظهر صواب موقفه؟ هل يعي تبون وشنقريحة أن هذا زمن العالم الذي أصبح قرية صغيرة ولا مكان فيه إلا للتكتلات القوية؟
    من حسن حظ الجزائريين أن وسائط الاتصال تتيح لهم معرفة الحقيقة، وسيقارنون خطاب رئيسهم مع خطابات المغرب وملكه الذي دعا في أكثر من مناسبة إلى فتح الحدود بين الدول المغاربية، وإلغاء العمل بنظام التأشيرات، وتعزيز الوحدة والاندماج بين دول المنطقة، واقترح عمليا الملك محمد السادس إنشاء آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور في خطاب 2018 بمناسبة الذكرى الـ43 للمسيرة الخضراء معربا عن انفتاح المغرب على المقترحات والمبادرات التي تتقدم بها الجزائر بهدف تجاوز الجمود في العلاقات بين البلدين. ولأن المغرب أحرص على علاقات جيدة مع الجزائريين في كل المجالات، اقترح الملك أن تتناول هذه الآلية قضايا الاستثمار وتعزيز التشاور الثنائي تجاه التحديات الإقليمية والدولية، وأهمها مكافحة الإرهاب وإشكالية الهجرة، بما يضمن إرساء علاقات ثنائية متينة، وبأن مهمة هذه الآلية “تتمثل في الانكباب على دراسة جميع القضايا المطروحة، بكل صراحة وموضوعية، وصدق وحسن نية، وبأجندة مفتوحة، ودون شروط أو استثناءات”.
    للرأي العام أن يقارن بين قائدين وخطابين ومقاربتين وشخصيتين. من منهما يفكر بأدوات العالم المعاصر وبمنطق المصلحة المشتركة وبأسلوب رابح رابح وبنفس إيجابي؟ ومن يفكر بمنطق التأزيم والبلوكاج وبلغة حربية؟
    للأسف، لا يعي تبون وغيره أنه بإصراره على إغلاق الحدود بين البلدين بدون مبررات منطقية وبأسباب تعود إلى ثلاثة عقود فإنه يعذب الشعب الجزائري قبل غيره بحرمانه من نافذة قريبة تشكل متنفسا له، ويضعف بناء اتحاد مغاربي، ويضع نفسه خارج التاريخ والجغرافيا.
    إنها عقدة تبون وشنقريحة التي تخفي عقدة مشتركة عند جيل من جنرالات الجزائر تنكروا للدور المغربي في دعم حركة التحرير الجزائرية، وهذا واجب على المغرب قام به حينها وسيقوم به في أي لحظة بغض النظر عن الخلاف مع حكام الجزائر لأن المعني به هم الجزائريون، وبحثوا كأولوية، لإخفاء ضعفهم، عن عرقلة المسار التنموي للمغرب وإشغاله بصراعات بينية فارغة. وإنها عقدة تبون تجاه الملكية في المغرب التي يرى إجماع المغاربة عليها ويتابع قدراتها الاستشرافية والتدبيرية التي تخرج المغرب من أحلك المراحل بدون خسائر وبما يقوي الخيار الديمقراطي ويعضد الوحدة الوطنية. إنها عقدة شنقريحة ومن معه وهم يرون “السمطة تدور عليهم” في ملف الصحراء الذي يراكم فيه المغرب الانتصار تلو الانتصار ميدانيا بعد حادث الكركرات الذي كان ضربة قاضية لتفوق جزائري عسكري وهمي اتضحت حقيقته بعد هروب عصابات البوليساريو تاركة صنادلها وبقاياها، ودبلوماسيا من خلال تراجع عدد الدول التي تعترف بجمهورية وهمية مقابل ارتفاع عدد الدول التي تعترف بسيادة المغرب على الصحراء. أما الحديث عن التفوق المغربي اقتصاديا فلا يحتاج دليلا ويكفي الجزائريين الاستماع إلى شهادات إخوانهم الذين زاروا المغرب ليحدثوهم عن فارق السنوات الضوئية بين البلدين، ويمكنهم كذلك مقارنة تدبير الدولتين لجائحة كورونا ليروا الفرق الشاسع. تبون أصيب بكورونا فلم تعالجه مستشفيات الجزائر! وبن بطوش أصيب بكورونا فكانت الجزائر مضطرة لترحيله على عجل وبهوية مزورة وبدون تفكير في العواقب ليعالج في إسبانيا. هنا يظهر الفرق بين دولة تستثمر إمكانياتها المتواضعة في التنمية وأخرى تستثمر عائدات البترول في تمويل جبهة انفصالية صارت عبئا على الجزائر والجزائريين.
    سيبقى الملك محمد السادس عقدة لدى تبون لأنه يريد مقارنة نفسه معه فلا يرى إلا فرقا كبيرا يغطيه بما يضره قبل غيره لأنه لا يتصرف كرجل دولة مسؤول يزن كلماته بميزان الذهب قبل التفوه بها في أماكن عمومية وأمام إعلام يتابعه الجميع. سيسجل التاريخ أن ملك المغرب مد يده للجزائر بدون شروط وتناسى كل أسباب الخلاف تغليبا لمصلحة المنطقة وخدمة لشعوبها. وبالمقابل، سيسجل التاريخ وسيشهد الجزائريون رد فعل بلادهم المغرق في الحسابات الضيقة والمتأثر بأجواء تسعينيات القرن الماضي.
    وبمناسبة الحديث عن تسعينيات القرن الماضي، أو ما يسميه أشقاؤنا الجزائريون العشرية السوداء، استرعى انتباهي دفاع تبون عن الإسلاميين، وخاصة الصنف الذي يحترم الدولة والقانون وبأن هؤلاء لا مشكلة معهم! لا يمكن لمن عايش تلك العشرية إلا الاستغراب لمن صار يتنفس الكذب لأنه أدمن عليه فصار يصدقه. من تسبب في تلك العشرية السوداء؟ أليس جنرالات العسكر الذين انقلبوا على نتائج انتخابات حملت إسلاميين إلى الحكم؟ هل يمكن لتبون أن يأتينا بتصريح قصير له عن تلك الفترة خالف فيها العسكر وساند فيها الديمقراطية وانتصر فيها لصندوق الاقتراع وميز فيها بين الإسلاميين المعتدلين والمتشددين؟ ألم أقل لكم أن تبون ليس إلا مبيضا لمرحلة سوداء ولو بالكذب على التاريخ وتزوير الوقائع؟
    هنا يظهر التفوق المغربي وعبقرية الملكية التي تنبهت مبكرا لهذا الخطأ الجزائري في التعامل العسكري العنيف مع الملف الإسلامي المتصاعد حينها. لقد كان الحسن الثاني حكيما وواعيا ومستشرفا للمستقبل فبدا واضحا في تمييزه بين الأصولية والتطرف ويمكن الرجوع لحواراته مع وسائل الإعلام الأجنبية حينها والتي كان فيها الإعلام الفرنسي يتعامل معه بمنطق رجل الدولة الحكيم والخبير بالملف والمتشبع بالثقافة الغربية والإسلامية وصاحب القدرة على المزج الإيجابي بين مقتضيات الحداثة والحفاظ على الأصالة. وهو ما أثمر إدماجا سلسا لحركة التوحيد والإصلاح في المشهد الحزبي بدون خسارات.
    لماذا تجاهل تبون النموذج المغربي ويضطر إلى الاستشهاد بالنموذج التركي وهو البعيد جغرافيا وتاريخيا وسياقا. أليست هذه عقدة المغرب التي يحملها في صدره؟ من يتشبث بدمج الإسلاميين عن اقتناع يظهر ذلك في أحلك اللحظات. وهو ما انتصر له الملك محمد السادس في 2003 في عز دعوات بعض الأطراف إلى تحميل العدالة والتنمية المسؤولية المعنوية عن الأحداث الإرهابية ل 16 ماي، وكذلك بعد 2016 بتأويل ديمقراطي للفصل 47 أبقى على أحقية الحزب المتصدر للانتخابات تشكيل حكومة بتغيير طفيف في رئيس الحكومة الذي اتضح من المشاورات أن فيتو الأحزاب الأخرى عليه وليس على حزبه. لا يخفى على أحد أن تجربة العدالة والتنمية في تركيا استمرت بدون انقلاب عسكري بضوء أخضر من أمريكا وبمساندة من الاتحاد الأوربي. كما لا يخفى على أحد على أن المغرب تمسك باستقلالية قراره وباعتباره الإسلاميين جزءا من النسيج الوطني لا يحد حقوقه إلا القانون، وقد طبق المغرب ذلك في لحظات كان الاقتراب فيها من هذا الملف يعني عداوات إقليمية ودولية ومخاطرة. أين كان تبون حينها؟ وأين كان جنرالات الجزائر؟
    هنا يظهر الفرق بين دولة تعيش انتقالها السلس وفق خصوصياتها نحو الديمقراطية بدون إقصاء وبخطوات تراكمية وبين حكام دولة يتنكرون لماضيهم فيصفون من كانوا يساندونهم وجزءا منهم بالعصابة ويتراجعون عن وعودهم للحراك بعد أن ربحوا الانتخابات بتبني مطالبه ووصفه بالحراك المبارك وهي التي قال تبون أنها جزء من الماضي ولن يعود إلى تسميته بالمبارك لأنه كان مباركا. كان الحراك مباركا يوم استعمله ضد خصومه ليستقوي به ولكنه افتقد للبركة حين رفع شعارات ضده.
    لقد عرت جائحة كورونا حقيقة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والصحي في الجزائر، وكشفت سنوات الضياع التي لم يستغلها جنرالات الجزائر لتنمية بلادهم، وفضحت حجم الفساد الذي ينخر البلاد، وبينت أن البوليساريو عبء سياسي واقتصادي ومالي ودبلوماسي على الشعب الجزائري. فكيف لدولة تمول جبهة انفصالية والشعب لا يجد ضرورات العيش؟ وكيف لدولة تضيق درعا بحراك سلمي ولا تتجاوب مع مطالبه وتحرص على نعت المتظاهرين بأصحاب الأجندات والمخربين؟ هنا يظهر كذلك الفرق بين المغرب والجزائر ويتأكد الاختلاف في جينات النظامين. وأكبر تحدي أمام جنرالات الجزائر وتبون هو ما بعد الانتخابات التشريعية. فهل يستطيعون السماح للحراك الشعبي التعبير عن مواقفه مما ستسفر عنه؟ وهل يخففون القبضة الحديدية على حرية التظاهر ويتجنبون لغة التخوين تجاه المتظاهرين؟ الأيام بيننا.
    ابتليت الساحة الجزائرية بنوع من الإسلاميين سقطوا رهائن في يد العسكر وصاروا أدوات سياسية ودينية في يده مستعدين للحديث عن فلسطين وكل العالم ولكن لا يمكنهم مصارحة الجنرالات بفسادهم وغرقهم في وحل التدبير السياسي، ومتجاهلين حجم الإنفاق على جبهة انفصالية على حساب الجزائريين وحاجاتهم، ومؤججين بخطابهم الفرقة وإذكاء الخلافات بين البلدين. وهنا يظهرون حقيقتهم وتسابقهم لنيل رضى العسكر وهم الذين ألفوا فتات المناصب منذ العشرية السوداء ولو على حساب دماء الجزائريين.
    في ظل حرص المغرب على عدم الانتقاص من سيادته والتصدي لكل من يتعامل معه بانتقاص واستعلاء يظهر معدن المغاربة الحقيقي الذي يميز بين الأولويات فيتناسى بعض الخلافات أو يؤجلها انتصارا لقوة الوطن ووحدته وتقوية لجبهته الداخلية. لقد ألف المغرب هذا الأسلوب على مر التاريخ وكم كانت المعارضة نبيلة وحكيمة في السبعينيات حين ميزت بين خلافها مع النظام وبين أولوية الدفاع عن وحدة الوطن. كان حينها جيل من السياسيين يستحق أن تدرس تجربته للأجيال اللاحقة. لقد كان مستهجنا جدا أن يطفو على السطح كالعادة الموقف الشاذ لجماعة العدل والإحسان طيلة مدة الخلاف المغربي الإسباني الذي بدا فيه المغرب مدافعا عن مصلحة مغربية ليس حولها خلاف تتمثل في طعن المغرب من خلال استقبال زعيم انفصالي بهوية مزورة ورفض عرضه على القضاء بعد دعاوى تقدم بها مشتكون تعرضوا لتعذيب من طرفه. هل التعبير عن موقف واضح وصريح ومبدئي ومبكر يستدعي كل هذا التفكير والتأخر؟ لماذا تفضل الجماعة الصمت تجاه كل ما يهم المغاربة؟ هل حساباتها السياسية لا تستحضر إلا النظام وما يجنيه من مكاسب من أي موقف صادر عنها؟ وهل ما زال النظام محتاجا لموقف إيجابي منها؟ ومقابل تخلف الجماعة عن التفاعل المبكر والصريح مع قضايا الوطن يلاحظ المغاربة تفاعلا مع قضايا قومية أخرى. فهل هذا سببه فقط حسابات سياسية أم سببه الحقيقي عدم إيمان بحدود الوطن الجغرافية وعدم اقتناع برابط الوطنية وعدم استعداد لتحمل تبعات فكرة المواطنة بمعناها الديمقراطي بالنسبة لجماعة لم توضح بعد موقفها من الديمقراطية؟ لماذا تبادر الجماعة وتجيش من أجل قضايا قومية مقابل صمت رهيب تجاه قضايا وطنية إذن؟ أليس في هذا تناقض مع ما تدعيه الجماعة من أنها تنظيم قطري وليس عالميا؟ ولو أن هذه صارت من الماضي ولا يمكن الاستمرار في تجاهل الامتدادات التنظيمية للجماعة في دول كثيرة بما يجعلها في تناقض صارخ مع مبادئها التي تأسست عليها. هل تنكر تمثيلية مؤسسات الخارج في أجهزتها التدبيرية والتقريرية؟ هذه أمور لم تعد تخفى على أحد.
    لنعد قليلا إلى الوراء أثناء حادث الكركرات حيث لاذت الجماعة بالصمت ولم تعبر عن موقف ولم تتفاعل بفعل ميداني واقتصرت على بيان يتيم صدر متأخرا جدا بعد أن حسم الموضوع وتاريخ صدوره سيبقى وصمة عار على الجماعة لأنه يبين أنه صدر تحت الضغط الشعبي وربما ضغط قواعد الجماعة وحكمائها. بمعنى أن صدوره أو عدم صدوره لن يفيد القضية. لقد تباطأت الجماعة في التفاعل مع حادث الكركرات رغم أن الجزائر وجبهة البوليساريو وإسلاميي العسكر لعبوا بها كورقة ضد المغاربة وضد المغرب ووحدته الترابية. ولكن استبشر البعض خيرا لأن المثال يقول أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي، وقال بعض آخر أن هذه ستكون بداية مقاربة جديدة للجماعة مع القضايا الوطنية.
    في لحظة الخلاف الإسباني المغربي أكدت الجماعة بسلوكها وخطابها وصمتها أنها لم تغير طريقة تعاملها مع قضايا الوطن، وأنها تستحضر حسابها مع الدولة كأولوية ولو على حساب مصلحة المغاربة. وهذا أكبر خطأ سياسي تسقط فيه قيادة الجماعة حيث تحول المعارضة، وهذا حقها الطبيعي، إلى حقد أعمى ضد الدولة متناسية أن المغرب ينتصر لسيادته واستقلال قراره ومصلحة شعبه. تحول المعارضة إلى حقد يخرج العمل السياسي من طبيعته النسبية ويبعده عن دائرة البحث عن الانتماء للوطن. وهذا قد تدفع الجماعة ثمنه غاليا سياسيا وشعبيا.
    للأسف، لم تتردد الجماعة في قيادة احتجاجات الفنيدق وظهرت بتجييشها المبالغ فيه في المنطقة، ولكن فجأة تبخرت وكأنها لم تكن بالأمس. هل سيفوت المغاربة هذا الصمت والغياب؟ وحدهم المغاربة سيحاسبون كل واحد. ولن ينسوا نهائيا أن هذه الجماعة لم ترفع ولو مرة علم البلاد في وقفة أو مسيرة أو نشاط مما يجعل اقتناعها بفكرة الوطن محل شك. وليتأكد القارئ أن هذا مؤشر بسيط لأن العلم الوطني ليس ملكا لأحد ورفعه في المناسبات العامة داخل البلد وخارجه أدنى تعبير عن الانتماء للوطن. للأسف ما يوجه موقف وحركة الجماعة في القضايا الوطنية ليس هو مصلحة البلاد ولكن هو ما يضرها. فأين ما وجدت ضررا أو مضرا بالبلاد ووحدتها ونظامها ومصالحها تجد الجماعة في مقدمة المصطفين. وهو ما صار يعيه الكثير من أعضاء الجماعة ومحيطها وصاروا يبتعدون عنها.
    قد تجنح قيادة الجماعة للتطرف تجاه النظام للتغطية على مشاكل داخلية والتجدر في المعارضة للحفاظ على وحدة تنظيم تتآكل تدريجيا بفعل مرور الزمن وحالة الجمود وفشل التدبير وعدم مسايرة التحولات، ولكن هذا الأسلوب هروبي فقط ولن يدوم طويلا. وفيه لعب بالنار لأن الجماعة تغامر بمستقبلها من خلال اختيارات معارضة للمغاربة.
    موقف جماعة العدل والإحسان من القضايا الاستراتيجية للمغرب ذكرني بسؤال سبق أن طرحه الدكتور مصطفى الفقي، السكرتير الأسبق للرئيس المصري حسني مبارك على أحد قيادات جماعة الإخوان هل يختار علم مصر أم علم الإخوان، القيادي الإخواني لم يجب على السؤال بشكل سريع، بل أخذ لنفسه فرصة للتفكير قبل أن يجد لنفسه مخرجا ويقول يختار الاثنين.
    الجماعة قبل الوطن وهذا منطق العدل والإحسان، فالمغرب ليس في حاجة إلى جماعة لا تؤمن بقضايا الوطن وبالمصالح العليا للوطن.
    الآن وقد صوت البرلمان الأوروبي على توصية ناور من أجلها البرلمانيون الإسبان فماذا بعد؟
    كانت إسبانيا تسعى إلى تحقيق إجماع أوروبي ضد المغرب، لكنه تكسر رغم كل محاولات إسبانيا من أجل تعديل مشروع التوصية التي رفضت 12 نقطة منها، فلم تحصل في الأخير إلا على 397 صوت فيما عارضها 85 وامتنع 196 عن التصويت بحكم أن النواب الفرنسيين لم يجاروا إسبانيا بالشكل الذي كانت تتمناه.
    فأين نحن من تصويت البرلمان الأوروبي ضد الجزائر في 26 نوفمبر 2020 عندما صوت 669 نائب ضد الجزائر، ولم يعارض مشروع القرار إلا نائبين اثنين، لكن الأهم هو ماذا بعد؟ ستبقى إسبانيا أكبر متضرر اقتصاديا من أي تدهور للعلاقات بين المغرب والاتحاد الأوروبي، لأن المغرب يملك أوراقا أخرى في العلاقات الثنائية مع إسبانيا ومن بينها ملف الصيد البحري لأن أي تعليق لهذا الاتفاق سيكون بمثابة الضربة القاضية للحكومة الإسبانية الحالية، ولهذا فإنها تبحث عن وقف تدهور العلاقات من خلال سحب ملف علاقاتها مع المغرب من وزارة الخارجية وتكليف نائبة رئيس الحكومة مباشرة بملف البحث عن صيغ مع المغرب لعودة العلاقات إلى سالف عهدها، وهو شيء يبقى القرار الأول والأخير فيه للمغرب.
    فبمجرد تبني البرلمان الأوروبي للتوصية تحركت حكومات بلدان أوروبية وازنة من أجل التأكيد على استراتيجية علاقة التعاون مع المغرب لأن إسبانيا تبقى في الأول والأخير منافسا تجاريا للمغرب بالنسبة للصادرات الفلاحية.
    لقد لعب المغرب ورقة الأندلس التي تعتبر أكبر متضرر في إسبانيا من تدهور العلاقات بين البلدين والانتخابات القادمة في هذه الجهة كفيلة بإعطاء المغرب عناصر قوة في مفاوضاته مع إسبانيا بالشكل الذي يجعل توصية البرلمان الأوروبي بدون مفعول حقيقي ويعيد الأمور إلى وضعها الطبيعي كعلاقات ثنائية بين المغرب وبلدان الاتحاد الأوروبي بما فيها إسبانيا. والأيام بيننا. حفظ الله المغرب الأعز والأبقى.
    وإلى بوح آخر.

  • المصدر: شوف تي في
    تعليقات الزوّار (0)

    *

    التالي
    الدارالبيضاء تستعد لاحتضان النسخة الثالثة من التظاهرة MOROCCO MALL JUNIOR PRO