بوح ما قبل العيد: عودة الروح إلى النظام العربي وخريف تيار الإخوان

بوح ما قبل العيد: عودة الروح إلى النظام العربي وخريف تيار الإخوان

A- A+
  • بوح ما قبل العيد: عودة الروح إلى النظام العربي وخريف تيار الإخوان في أفق بداية خريف نظام أردوغان وأزمة استراتيجية الطوابرية والانفصاليين والانتحاريين وأشياء أخرى

     

  • أبو وائل الريفي

    هناك تحول استراتيجي يلوح في الأفق في الشرق الأوسط، تحول يقوي الملكيات العربية وصوت الاعتدال في العالم العربي بشكل يعيد الروح إلى النظام العربي الذي مر من فترة عصيبة جعلته رقما هامشيا في لعبة الأمم، لكن اليوم هناك تباشير انتعاش يعيد الاعتبار إلى النظام العربي الذي فقد قوته وجعل أنظمة إقليمية في الشرق الأوسط تراجع حساباتها من أجل توازنات جديدة. لهذا أخصص جزءا من بوح هذا الأسبوع لمقاربة الوضع من أعلى حتى نفهم السياق الذي تندرج فيه الكثير من الخطوات التي تريد إلهاء المغرب ومؤسساته عن لعب دورها الإقليمي والوطني.

    في كل بلاد، هناك طابور خامس همه الأساسي خدمة أجندات أجنبية هدفها تيسير التمكين للتحولات الجارية في المنطقة، ولو على حساب الوطن، ومشترك الجغرافية.

    تمنى بعض أركان هذا الطابور سقوط أرواح وتسويق المملكة كمشرحة تعذيب وانتهاك لحقوق الإنسان، وهذا ليس بريئا ولكنه خدمة خبيثة يسدونها لجهات لم تعد في زمن الفرز خافية على أحد.

    تمر المنطقة العربية في الآونة الأخيرة بمجموعة تحولات تعكس رغبة في الانتقال إلى مرحلة مخالفة، وهوما تعكسه تحركات ظاهرة وخفية، وإعادة الدفء إلى العلاقات بين بعض اللاعبين الإقليميين الكبار بعد طول عداء. هل هي بعض من تداعيات نجاح الحزب الديمقراطي في أمريكا؟ أم أن أوراق بعض اللاعبين انكشفت؟ أم هو فشل بعض الاستراتيجيات التوسعية على حساب النظام العربي في منطقة عربية؟ أم هي إعادة انتشار لأمريكا التي تنشغل، بعد فترة تأمل، بتقويض النفوذ الروسي واستعادة التفوق الأمريكي ولكن بدون كلفة سيرا على طريقة أوباما “القيادة من الخلف”.

    أمريكا تدفع بشكل غير مباشر إلى إحداث تحولات متسارعة في المنطقة العربية ومراجعة الكثير من الاختلالات المضرة بمصالحها ورؤيتها التي تعتبر أمن المنطقة من أمنها القومي وحضور قوات أخرى فيها، بغير رعايتها، إضعاف لها. وفي هذا السياق يأتي تأكيد وزير الخارجية الأمريكي على انسحاب كل القوات الأجنبية من ليبيا ويؤكد استعداد بلاده لدعم استكمال خارطة الطريق في ليبيا ودعم أمريكا للانتخابات القادمة المنتظرة في ديسمبر القادم.

    رصد المتتبعون منذ مدة طويلة مؤشرات تحول في الاستراتيجية التركية والإيرانية مقابل مساحات، ولو ضئيلة، تربحها إسرائيل في المنطقة على حسابهما، كما لوحظت تحركات هادئة للمحور العربي الذي تمثله دول الاعتدال، وفي مقدمتها العربية السعودية.

    ولكن يبقى السؤال الرئيسي. هل هذه التحولات تكتيكية أم استراتيجية؟ وهل تتم برضى أصحابها أم مجبرين عليها؟

    لم تكن المصالحة السعودية القطرية حدثا عابرا، ولكنها كانت مقدمة لتحولات إقليمية لن تقتصر على الدول العربية فحسب، بل ستطال كل الفاعلين المؤثرين في المنطقة.

    ها هي تركيا التي تتفاخر بكونها القوة المؤثرة المنافسة على زعامة العالم السني تتلقى الضربة تلو الأخرى بما يجعلها مضطرة لإعادة ترتيب أوراقها ونسج علاقات جديدة مع بعض “أعداء و”خصوم” الأمس.

    لقد استنزَفت المعارضةُ المصرية في تركيا، وخصوصا التيار الإخواني، رصيد أردوغان فصاروا عبئا ثقيلا عليه وعلى تجربته وحزبه ودولته، فلا هم وحدوا صف المعارضة، ولا هم حافظوا على وحدة تنظيمهم، ولا هم صنعوا حدثا مؤثرا في مصر وقد مرت تسع سنوات استرجعت فيها مصر جزءا كبيرا من عافيتها واستقرارها، مما جعل تركيا تفكر جديا منذ شهور في إعادة إحياء العلاقات مع مصر التي كان يعتبرها أردوغان نظاما انقلابيا، وها هي الاتصالات السرية تطفو على السطح للعلن بعدما أثمرت هذا الأسبوع قمة إعدادية تمهيدية في القاهرة قادها مع الجانب المصري وفد تركي برئاسة مساعد وزير الخارجية، سادات أونال، كخطوة أولى في المشاورات السياسية بين البلدين طيلة يومين تليها خطوات أكثر أهمية ورمزية على صعيد التراتبية الدبلوماسية بدءا بلقاء مرتقب بين وزيري خارجية البلدين. ومن يدري ما ذا بعد؟

     ولا بد من التذكير بأن خطوة وزارتي الخارجية لاحقة لخطوات اقتصادية وتجارية وأمنية تسير بوتيرة أسرع ولم تنقطع حتى في أسوأ اللحظات بين البلدين. والغريب أن التقارب يأتي بإلحاح تركي وتمنع مصري حيث أعلنت مصر رسميا أن هذه فقط مباحثات استكشافية وأن جهود تركيا مقدرة ولكنها مرهونة باحترام سيادة دول المنطقة. وهي رسالة مبطنة لأردوغان بأن مصر ليست وحدها والمصالحة معها مشروطة بتحسين سلوكها مع جيرانها العرب، وفي مقدمتهم السعودية والإمارات. ومصر بهذه الاشتراطات تحاول استعادة بعض قوتها إقليميا في ظل مصاعب تواجهها في ملف سد النهضة وفتور يطبع علاقاتها مع دول عربية يتجلى في إقصائها من بعض المشاريع الاقتصادية، وحالة ضعف تواجهها كذلك في ملف شرق المتوسط.

    ليس من السهل على أردوغان أمام أنصاره الإقدام على هذه الخطوات ولكن “مجبر أخاك لا بطل”، فقد تلقى أردوغان ضربة قاصمة بعد إقدام بايدن، يوم السبت 24 أبريل، على التصريح بأن الأرمن تعرضوا ل “مذبحة” و”إبادة جماعية” من طرف الأتراك، وهي الخطوة غير المسبوقة التي تجنبها رؤساء أمريكيون سابقا حفاظا على العلاقات مع تركيا، على الرغم من أن بايدن أرفقها بما يليق من دبلوماسية مؤكدا أن هدفه ليس توجيه اللوم ولكن ضمان عدم تكرار ما جرى. لقد كانت هذه الخطوة منتظرة فعلا لأنها شكلت جزءا من وعود بايدن الانتخابية ولكنها لم تكن متوقعة بهذه السرعة والكيفية وفي هذه اللحظة الدقيقة التي يشتد فيها الخناق على تركيا من كل جانب، وهي هدية على طبق من ذهب للأرمن، وخاصة عبارته “الأميركيون يكرمون جميع الأرمن”.

    هو استفتاح غير مبشر لمستقبل العلاقة بين البلدين في ظل إدارة أمريكية ديمقراطية غير واضحة بما يكفي وكان يأمل منها أردوغان الكثير لإصلاح علاقة ظلت متوترة طيلة ولاية ترامب. ولذلك جاء رد أردوغان سريعا ومنفعلا ومعبرا عن حالة ضعف غير مسبوقة، حيث وصف القرار ب “الخطوة الخاطئة” مؤكدا أن “بايدن استخدم عبارات آلمتنا وهي غير محقة ولا أساس لها، وتخالف الحقائق” لاجئا إلى تقطير الشمع بدعوة أمريكا إلى “النظر في المرآة”. هل اعتاد الرأي العام حالة الضعف هذه من أردوغان؟ لماذا وصل إلى هذا المستوى؟

    لقد يئس العالم الغربي من ازدواجية أردوغان وشعبويته، فهو مع الناتو ويشتري الأسلحة من روسيا!، وهو يتحرك في ملفات ذات طبيعة عسكرية في اتجاه مخالف لأعضاء الناتو كما هو الحال في ليبيا وسوريا والعراق.

    الجواب عن حالة الضعف التركية غير المسبوقة نجده على واجهات أخرى تؤشر كلها في اتجاه انحسار تركي مستقبلا. على الأقل سياسيا واستراتيجيا. فالتجربة الأردوغانية تبقى صناعة أمريكية رعتها لاعتبارات متعددة يطول شرحها، وهذه التجربة فقدت بريقها وإغراءها ودورها الإقليمي بتورطها في ملفات كثيرة، وضمنها الملف الليبي والملف اليوناني، وأضاعت علاقات كانت تستقوي بها مثل التقارب مع إيران بسبب الملف السوري ورعايتها لداعش، كما أنها تفقد تدريجيا قطر التي صارت بعد المصالحة الخليجية أكثر حذرا في علاقاتها الخارجية. والأهم أنها صارت غير مرحب بها لدى فئات واسعة من المجتمع التركي، وكلنا نتذكر الخسارة المدوية لحزب العدالة والتنمية في انتخابات إسطنبول التي أعيدت مرتين. إسطنبول التي هي أقرب لهوى هذا الحزب والتي قال عنها أردوغان “من يفوز باسطنبول يفوز بتركيا”.

    تواجه تركيا متاعب متواصلة مع جيرانها الأوربيين كذلك، وهي الراغبة في تحسين علاقات متوترة بشكل كبير لأكثر من عام. وقد كانت الزيارة الأخيرة لرئيس المجلس الأوروبي ورئيسة المفوضية الأوروبية بداية الشهر المنصرم مناسبة لتأكيد التعثر الذي يعرفه هذا الملف، وخاصة في ظل الاشتراطات الأوربية في ملف حقوق الإنسان. 

    هذه المتاعب هي التي جعلت أردوغان، وبطلب منه، يجري اتصالا هاتفيا مع الملك سلمان يوم الثلاثاء الماضي وهو ثاني اتصال هذا الشهر بعد مباركة رمضان. وسيلي هذه الاتصالات زيارة مرتقبة بداية الأسبوع القادم لوزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إلى السعودية، بعد أربع سنوات على آخر زيارة.

     ترى أين هو موقف تركيا من قضية خاشقجي؟ هل انتهى الملف ولم يعد أولوية تركية؟ الجواب طبعا نستشفه من تصريحات التيار غير الشعبوي وسط العدالة والتنمية الذي يتنامى دوره مؤخرا، حيث أعلن نهاية الشهر الماضي المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن عن سعي تركي لإعادة العلاقات مع السعودية بأجندة أكثر إيجابية، وبأن لدى السعودية محكمة “أجرت محاكمات. اتخذوا قرارا وبالتالي فنحن نحترم ذلك القرار”. ما لا يفهمه الكثيرون أن هم تركيا تجاري محض، وقد تضررت من التوتر مع السعودية حيث انخفضت قيمة التجارة بين البلدين بنسبة %98.

    وفي نفس السياق، كان هناك اتصال هاتفي مع الإمارات وهو رغم رمزيته مؤشر مهم جدا حيث أجرى وزير الخارجية التركي مكالمة هاتفية مع نظيره الإماراتي لتبادل رسائل التهنئة بشهر رمضان المبارك، وفقا لوزارة الخارجية التركية. هل هذه كذلك مصادفات؟

    بالتأكيد ليست مصادفة، وأردوغان يعي جيدا قوة المحور السعودي الإماراتي عربيا الذي يتقارب أكثر ويبحث عن موقع قدم في هذه التحولات، بعد زيارة محمد بن زايد للسعودية الأسبوع الماضي ولقائه ولي العهد محمد بن سلمان لمناقشة آخر مستجدات الأوضاع والملفات في منطقتي الخليج العربي والشرق الأوسط، والوضع في اليمن.

    ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد كانت صدمة تيار واسع داخل العدالة والتنمية كبيرة في التيار الإخواني بعد اللقاء الذي جمع قيادات إخوانية مع غريمه حزب السعادة معتبرين ذلك، بدون تصريح رسمي، نكرانا للجميل وتنكرا لحسن الضيافة ومحاولة للضغط على العدالة والتنمية. فهل سيترك أردوغان هذه الخطوة بدون رد؟ وهل يكفي بيان نائب مرشد الإخوان لتصحيح الأمور وهو الذي لم يصدر إلا بعد تسرب خبر اللقاء من قيادة حزب السعادة؟ وهل يستوعب الأتراك اليوم خطورة فتح البلاد لمعارضين لم يعد أداؤهم يقتصر على دولهم بل صاروا لاعبا تركيا في الشؤون التركية الداخلية يسعون إلى ترجيح كفة على أخرى؟ لننتظر ما تجود به الأيام القادمة. ولكن الخلاصة المهمة هي أن الأمر لا يرتبط بمواقف دينية أو مرجعيات أخلاقية وإنما بحسابات السياسة والمصالح والدين والأخلاق. والمبادئ مجرد واجهة للتلاعب بالعواطف والمشاعر.

    والحقيقة أن تقارب الهوى الإخواني مع هوى حزب السعادة، الذي أسسه أربكان كامتداد فكري وسياسي لحزب الرفاه، لا يخفى على أي مراقب، ويصرح به إخوان مصر خفية في كل المناسبات. ومؤخرا بدأت تحضر هذه الفكرة وسطهم بقوة بعد أن بدأوا يكتشفون الطابع البراكماتي للعدالة والتنمية وإصرار الحكومة على تطبيع العلاقات مع مصر التي تصنف الإخوان كتنظيم إرهابي وتشترط التوقف عن دعمهم لاستئناف العلاقة، إضافة طبعا للملف الليبي وملف شرق المتوسط، وتعلن أكثر من مرة أن هذا مطلب لا يقتصر على مصر لأن التيار الإخواني صار عنصر توتر غير مرغوب فيه في المنطقة كلها. وهكذا يتضح أن الإخوان يعيشون لحظات أسوأ مما عاشوه بعد 2013، وربما أسوأ من ترحيل بعض قياداتهم من قطر لتركيا.

    لقد أعلن للمرة الأولى خبر اللقاء كرم الله أوغلو رئيس حزب السعادة التركي المعارض، موضحا أن اللقاء تم مع وفد ممثل لقيادات تنظيم الإخوان المستقرين في تركيا. وتجدر الإشارة إلى أن هذا أول لقاء من نوعه رغم إقامتهم بتركيا سنوات طويلة. ولذلك لا يحتاج الأمر ذكاء خارقا لربطه بحالة التوجس الإخواني من أردوغان وهم الذين خبروه جيدا، وخاصة بعد الرفض المتكرر لياسين أقطاي مستشار أردوغان لقاء عدد من القيادات، وفي مقدمتهم محمود حسين، لبحث وضعية الجماعة وأعضائها في ظل التقارب المصري التركي وهم أدرى باشتراط مصر رفع اليد عنهم أو تسليمهم للقضاء أو ترحيلهم خارج تركيا.

    هل هي إذن نهاية التجربة الإخوانية؟ أم هي نهاية فقط للتنظيم الدولي؟ هل استنفدت الفكرة الإخوانية بريقها؟

    الجواب نجده في ليبيا بعد إقدام إخوان ليبيا، استعدادا لخوض الإخوان معترك الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة، على التحول إلى جمعية تحمل اسم “الإحياء والتجديد”، مع التأكيد على أنها ستؤدي رسالتها في المجتمع الليبي. ترى ما السبب في هذا التحول؟ وما المشكلة في الاسم القديم “العدالة والبناء”؟ هل تحققت العدالة وانتهى البناء؟ أم هو شبح اسم صار تهمة وورقة انتخابية خاسرة؟

    إن خطوة إخوان ليبيا غير معزولة ولكنها تندرج في مسلسل التنكر للإرث الإخواني الذي صار عبئا على الإخوان غير المصريين يسارعون في التنكر له بمناسبة وغير مناسبة. ويمكن لمن يتابع تصريحات قيادة حركة النهضة وحزب العدالة والتنمية المغربي اكتشاف ذلك.

    وهي خطوة تذكرنا بالوثيقة السياسية الجديدة لحماس (أبريل2017) التي تخلت فيها، بعد طول تفكير وتشاور ونصائح، عن ارتباطها الفكري والتنظيمي بحركة الإخوان المسلمين الأم مناقضة ما كان ينص عليه ميثاقها التأسيسي.

    وهي الخطوة نفسها التي سبقهم إليها إخوان الأردن سنة 2016، حين أعلنت جماعة الإخوان المسلمين الأردنية فك ارتباطها مع الجماعة في مصر.

    إنه خريف تركيا أردوغان، وخريف التيار الإخواني الذي سوق له كبديل للتيارات الجهادية وحظي برعاية غربية، ولكنه لم يكن في مستوى ما عقد عليه من آمال وأبان بعد تجربة قصيرة قصوره وشعبويته، وأنه ليس إلا رافدا لتلك التيارات. وقد أعاد التاريخ نفسه بعد 2013 كما فعل في ستينيات القرن الماضي.

    في الجانب الآخر، هناك لاعب إقليمي آخر بغطاء ديني مذهبي قومجي فارسي. إنها إيران التي تستعد لانتخابات مصيرية فأفاقت على وقع تسريب خطير لجواد ظريف، ما زال لغزا بخصوص توقيته والجهة المسربة له والهدف من ذلك والمستفيد الحقيقي منه. جواد ظريف المرشح الأوفر حظا للإصلاحيين لرئاسة إيران وجد نفسه أمام تسريب صوتي مدته أكثر من ثلاث ساعات ينتقد فيه الدور الكبير للحرس الثوري والجيش، وخاصة قاسم سليماني، في الدبلوماسية ورسم السياسة الخارجية، وأن هيكلية وزارة الخارجية يغلب عليها التوجه الأمني، وأن سليماني عمل عن قرب مع روسيا لمعارضة الاتفاق حول البرنامج النووي الذي أبرم بين طهران والقوى الكبرى سنة 2015، وأنه، أي جواد ظريف، يسعى إلى إيجاد نوع من التوازن الصحيح بين الجيش والسلك الدبلوماسي.

    لقد كان مثيرا للانتباه في ظل كل هذه المستجدات صدور تصريح من ولي العهد السعودي في مقابلة تلفزيونية قائلا إن بلاده “تطمح إلى علاقات إيجابية مع إيران، رغم الخلافات الكبيرة معها”، وهوما يؤكد ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز في عدد فاتح ماي عن رغبة إيرانية سعودية في عقد جولة ثانية من المباحثات غير المعلنة، على مستوى السفراء، بينهما في بغداد، بعد جولة مباحثات سرية عدت على مستوى أمني بوساطة عراقية في بغداد، في 9 أبريل. وكانت وكالة رويترز دققت أن الوفد السعودي ترأسه رئيس المخابرات، خالد بن علي الحميدان، أما الوفد الإيراني فترأسه سعيد عرافاني نائب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني دون أن يصدر نفي أو تأكيد من الطرفين.

    حالة التوجس وعدم الثقة هي التي جعلت خطوات كثيرة تتم في الظل وتتخذ طابعا استخباراتيا قبل أن تنتقل إلى الشق الدبلوماسي في انتظار انتقالها لمستوى أعلى. وهذا ما يتضح أكثر من التستر العراقي على هذه اللقاءات قبل أن يكشف رسميا الرئيس العراقي بأن العراق استضافت أكثر من مرة محادثات سعودية إيرانية.

    الرغبة السعودية في التقارب طبيعية تمليها ضرورة التأقلم مع مستجدات ما بعد ترامب، وفي ظل رغبة إدارة بايدن إحياء الاتفاق النووي مع إيران وإنهاء الحرب في اليمن وتعليق صفقات الأسلحة التي أقرتها الإدارة السابقة ومراجعتها وسحب الحوثيين من قائمة التنظيمات الإرهابية وحالة الاستنزاف الذي تعيشه قوات التحالف في اليمن، حيث تشير الأرقام إلى خسارة السعودية لما يقارب 100 مليار دولار. ولكن الرغبة الإيرانية أقوى، وهي التي تتلقى الضربات المتوالية في المنطقة، هي وحلفاؤها في سوريا ولبنان واليمن والبحرين وفلسطين، دون رد، وتتضرر أكثر من عزلتها والمقاطعة الاقتصادية والمالية التي تواجهها مما قد ينعكس على الداخل الإيراني ويجعل ميوله الانتخابية غير متحكم فيها.

    هل كان ضروريا أن نتطرق لكل هذه التحولات لنعلم حجم التحديات التي تنتظرنا كمغاربة لنحافظ على المكانة التي ألفناها إقليميا ودوليا؟ وهل يقتنع المغاربة الآن بصواب الخيارات الدبلوماسية المغربية في تعاطيها مع الكثير من الملفات الشائكة بحكمة واعتدال؟ أليست كل هذه التحولات تعكس وجاهة المقاربة المغربية للتعاطي مع كل هذه الأطراف؟

    يراهن المغرب على توازن دبلوماسيته ومسؤولية مؤسساته ومصداقيته وانتصاراته التي يحصدها في ظرفية مأزومة، بدءا من ملف وحدتنا الترابية ومرورا بحالة الإحراج التي يوضع فيها خصوم هذه الوحدة، وانتهاء بتحكم غير مسبوق في وضعية وبائية خطيرة.

    تريد الجزائر كالعادة تصدير أزمتها الداخلية للمغرب لتحقيق التفاف شعبي حول نظام جنرالات سئمه الجزائريين فصاروا ينادون علانية بدولة مدنية غير عسكرية.

    ويريد البوليساريو الخروج من ورطة تزوير هوية زعيمه لتأمين دخوله للأراضي الإسبانية للاستشفاء من مرض ظلت الجبهة متسترة عليه حتى فضحته اليقظة المغربية.

    والمتضرر الأكبر هي اسبانيا التي وجدت نفسها بين المطرقة والسندان. مطرقة إرضاء الجزائر والجبهة وسندان ضميرها وقضائها ودستورها ومؤسساتها. فهل ستنتصر لهذا أم ذاك؟

    وحده المغرب يقف رافعا رأسه منشغلا بإعادة صياغة نموذجه التنموي مواجها لكل المؤامرات التي تريد إلهاءه عن استكمال بناء مشاريعه وأوراشه الاقتصادية والاجتماعية.

    لقد بينت التطورات الإقليمية رجاحة المواقف المغربية التي جعلته أكبر مستفيد من المواقف المتوازنة التي اتخذها إبان أزمة الخليج، وكذا الدور الإيجابي الذي لعبه من أجل المصالحة في ليبيا وتحمله لمسؤوليته في ضمان الأمن في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وحدها الجزائر التي تراكم الانتكاسات الواحدة تلوى الأخرى تواصل العداء للمغرب وتراهن على الطوابرية وانفصاليي الداخل من أجل تركيع المغرب والتشويش على انتصاراته التي يعززها يوما بعد يوم في إدارة مصالحه الاستراتيجية، لهذا لا يمكننا أن نستغرب إذا رأينا الواشنطن بوسط تنشر مقالا مناهضا للمغرب، لم تكن صاحبته إلا سامية الرزوقي المعروفة بدعمها للانفصال وعدائها للوحدة الترابية للبلاد وارتباطها بأطراف داخلية مغربية لازالت تحلم أنها سوف تركع المغرب.

    إذا كانت سامية الرزوقي تؤمن بالمبادئ، فلماذا لم تكتب حرفا واحدا حول الشكايات من أجل التعذيب وجرائم الحرب المرفوعة ضد إبراهيم غالي في اسبانيا؟ هل المبادئ التي تؤمن بها محصورة في الجغرافيا وغير قابلة بالمطلق لتشمل باقي المنطقة أم أنها مكلفة بمهمة من طرف رعاتها الذين فقدوا مصداقيتهم في الداخل المغربي؟

    يراهن الذين فقدوا البوصلة في المغرب على أمريكا بعد أن تجاهلتهم أوروبا، ولهذا لا نستغرب تحرك أركان الطابور الخامس باتجاه الساحة الأمريكية من أجل تعزيز مجهود اللوبي الجزائري للضغط على المغرب.

    فلهم ولغيرهم. لقد اختار المغرب طريقا واضحا من أجل الدفاع عن مصالحه الاستراتيجية العليا وهو الوضوح الذي عرى ويعري لعبة جوج وجوه التي انتعش منها أركان الطابور الخامس طوال سنوات، وعلى هذا الأساس اتخذ المغرب قراره باستدعاء سفيرة المملكة في ألمانيا للتشاور.

    لقد وضع المغرب مراجعة علاقته مع ألمانيا في إطارها الحقيقي من خلال التذكير بحزمة من الممارسات غير الودية الألمانية تجاه المغرب بما فيها التواطؤ مع إرهابي موالي للقاعدة ودفعه إلى ارتداء جبة حزب من اليسار الألماني لتبييض جرائمه السابقة والتغطية على كل محاولاته الداعية إلى العنف في المغرب.

    لقد وضع المغرب ألمانيا أمام مسؤولياتها وما عليها الآن إلا أن تختار، فلا يمكن للصعاليك أن يصنعوا غد المغاربة بمباركة أطراف داخل الأجهزة الفيدرالية الألمانية.

    لقد واكب الرأي العام طي ملف لعروبي في مريكان الذي ظلت الماكينة إياها تقدمه على أساس أنه مضرب عن الطعام منذ تسعين يوما، وأنه كان يصوم رمضان ويفطر على التمر والعسل، فإذا بالرجل يصدم الرأي العام بتناوله للماء وحساء الشعير بعد ساعات من مغادرته للسجن في عز النهار والناس صيام.

    فالرأي العام لن ينسى تمثيلية الرجل يوم مثوله لأول مرة أمام المحكمة وهو يطلب كرسيا متحركا بعد أيام من إعلان إضرابه عن الطعام، فإذا به يوم خروجه من السجن بدا في كامل لياقته بعد أن أسدل الستار على المسرحية.

    هو الآن خارج الأسوار، ولكنه يواصل نفس اللعبة من خلال الترويج أن بعض المضربين لن يصمدوا لشهر، علما أن أحدهم أوقف إضرابه والآخر إذا كان يريد الانتحار فذلك اختيار شخصي لا يتحمل وزره إلا هو ومن هم وراءه، لأن زمن ابتزاز القضاء والمؤسسات قد ولى والأيام كفيلة بفضح المستور، لأن ثلث القابعين في السجون هم المعتقلون احتياطيا، فلماذا سيشكل شخص أو شخصان استثناء حتى يتم تمتيعهم بالسراح المؤقت خارج القانون بعد أن أحيلت ملفاتهم الثقيلة على القضاء الجالس واقتناعهم واقتناع دفاعهم بثقل المتابعة التي لا يمكن أن تفضي إلا إلى الإدانة في الغالب الأعم.

    لقد اختار بعضهم طريق التهديد بالانتحار من أجل تعطيل المتابعة بعد أن باءت كل محاولات البحث عن صفقة سياسية تصادر حقوق الضحايا.

    هل نجحت الصفقة السياسية التي أبرمتها الجزائر مع إسبانيا من أجل تعطيل تطبيق القانون في قضايا مشابهة؟ أبدا لم تنجح ولن تنجح فبعد بوح الأسبوع الماضي حول دخول إبراهيم غالي في غيبوبة، تحركت الآلة الإعلامية للانفصاليين من أجل الترويج لخروج إبراهيم غالي من الغيبوبة وهذا ما نتمناه حتى تأخذ العدالة مجراها في مواجهة إبراهيم غالي كمجرم حرب.

    الآن وقد تأكد، بعد الإجراءات المسطرية التي قامت بها النيابة العامة في المحكمة الوطنية بمدريد، أن إبراهيم غالي مطلوب للعدالة الإسبانية حالما تسمح حالته الصحية بذلك، وهو ما يفسر حالة التيه والإحباط الذي عم صفوف الانفصاليين ودفعهم للتحرك في جميع الاتجاهات بعد أن باءت محاولات نقله إلى سويسرا لمواصلة العلاج بدعم من الأوساط الداعمة للانفصال في إسبانيا.

    لقد حولت المركزية الانفصالية أموالا طائلة من أجل دفع انفصاليي الداخل للتحرك وتسخين الساحة بالاحتجاجات للرفع من معنويات الانفصاليين وتخفيف الضغط على قيادة البوليساريو، ولكنها تبقى محاولات محكومة بالفشل كسابقاتها.

    إنه الواقع الذي لا يرتفع، وإنها الحقيقة التي تفرض نفسها على الجميع، فأنى لها أن تركع هذا المغرب الصامد منذ قرون والذي يستعصي على التركيع، بعد أن توهم البعض إمكانية تجاوز استقلال القرار المؤسساتي الوطني بالإملاءات الخارجية من خلال الحج إلى سفارات البلدان الغربية في الرباط لتأليبهم ضد المغرب ومصالحه العليا، لكن لا خيار لنا إلا تعزيز هذا الانتصار في كل الواجهات بعد أن تجاوز المغرب مرحلة عسر التلقيح وتأكد وصول شحنات إضافية من لقاح أسترازينيكا بداية الأسبوع القادم بشكل يضمن استمرار عملية التلقيح بمعدلات معقولة إلى نهاية ماي وبداية يونيو، في محيط إقليمي وجهوي عاد إلى الحجر الصحي الشامل كما هو الحال في تونس التي أعلنت حجرا صحيا إلى ما بعد العيد مع إقفال كل الأماكن العامة بما في ذلك أماكن العبادة في مبادرة تثبت للجميع أن المغرب اتخذ القرارات الصائبة في الوقت المناسب.

    حفظ الله المغرب وسدد خطاه وبارك الله تضحيات الرجال والعزة للمغرب ولكل القابضين على الزناد في كل مكان من أجل رفعة الوطن.

    وإلى بوح ما بعد العيد

     

     

  • المصدر: شوف تي في
    تعليقات الزوّار (0)

    *

    التالي
    الشرطة القضائية بتنسيق مع الديستي توقف شقيقين يشكلان موضوع مذكرات بحث