بوح الأحد: لماذا انتفض المغرب ضد غدر قيس، شيوخ الطوابرية يسقطون من جديد

بوح الأحد: لماذا انتفض المغرب ضد غدر قيس، شيوخ الطوابرية يسقطون من جديد

A- A+
  • بوح الأحد: لماذا انتفض المغرب ضد غدر قيس، شيوخ الطوابرية يسقطون من جديد في مستنقع خيانة المغرب و فرنسا تكتوي بنار القرارات الهادئة للمغرب و أشياء أخرى

    أبو وائل الريفي
    لم يتهاون المغرب في الرد على من يستهدف وحدته وانتهاك سيادته، ولم يخطئ الجهة المعنية بهذا الرد، ولم يفرط في هذا الرد لأنه ميز بشكل جلي بين تصرف شاذ وسلوك مستهجن لرئيس وبين الشعب التونسي وأقام جدارا فاصلا بين سياسات تونس التقليدية وبين سياسات مزاجية لرئيس يضر بتونس ومصالحها وبمكانته كرئيس قبل أن يضر بغيره.
    لقد عبر الموقف المغربي من تهور قيس سعيد على أن قضية الصحراء المغربية خط أحمر، ولا تمييز في ذلك بين تونس وإسبانيا وألمانيا وغيرها، لأن المغرب أصبح مقتنعا أنه بذل مجهودا كافيا وقدم حلا جديا وواقعيا ومرضيا ولن يسمح لأي كان بإقباره وإجهاضه، وخاصة من قبل من ينتعش في إدامة هذا النزاع، وهذا الحل نال استحسان ومباركة جل القوى الدولية، ولم يتبق إلا أقلية البوليساريو و داعميها غير المستعدين لحل هذا النزاع المفتعل والذي طال أكثر من اللازم ويرهن تقدم وتنمية المنطقة كلها.
    بعض ذوي النفوس الضعيفة، وعن سبق إصرار وترصد، يسوقون لمغالطات وقراءات مضللة، ويخطئون قراءة خطاب جلالة الملك بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب لأنه أصاب كل أعداء الوحدة الترابية في مقتل حين وضع قضية الصحراء في المكانة التي تستحقها وجعلها المنظار والمقياس والمعيار لعلاقة المغرب مع باقي الكيانات. يتناسى هؤلاء أن الخطاب محصلة لمجهود سياسي ودبلوماسي وميداني وتواصلي استطاع خلاله المغرب على مر أكثر من عقد من الزمن إقناع المنتظم الدولي بجدوى مقترحه للحكم الذاتي وفعاليته لحل هذا النزاع، وهذا ما تؤكده كل القرارات الأممية التي تجعل المتصفح لها ولتطورها يستنتج الاقتناع الأممي بهذا المقترح، ويؤكده التشنج الذي يطبع سلوكات البوليساريو التي خرجت عن كل منطق دبلوماسي وصارت تلوح بالعودة للحرب رغم أنها تعرف أنها لن تقدر على تبعاته وقد كان حادث الكركرات درسا بليغا لهم، ويؤكده تزايد سحب الاعتراف بالجمهورية الوهمية مقابل تزايد الاعتراف بمغربية الصحراء. إذن خطاب الملك واشتراطه الاعتراف بمغربية الصحراء كدليل على صدق الشركاء ونجاعة الشراكة مع المغرب كان نتيجة طبيعية وليس شرطا خياليا وله من الأدلة ما يسنده.
    لم تنجح كل محاولات خصوم الوحدة الترابية لإضعاف الاكتساح الدبلوماسي المغربي، ولم تنجح إغراءاتهم لكثير من الدول في ثنيها عن الاعتراف بالحقيقة والتعامل على ضوئها لأنها ترى في استمرار هذا النزاع تعطيل لمصالحها قبل مصالح أطرافه، ولذلك فإن موقف الرئيس قيس سعيد كان شاردا وضد السياق ولا يمكن وصفه إلا إعلان عداء للمغرب بدون سبب أو داع يمكن للمغرب التماس العذر له، وعلى من لم يتفهم موقف المغرب الحازم أن يفهم قبل ذلك طبيعة الموقف التونسي وسياقه ودلالاته وتداعياته أولا، وأن يستوعب حجم الانقلاب في هذا الموقف ودرجة الاستهداف للمغرب من خلاله والهدف من ورائه والمبررات الواهية لتبريره.
    استغرب بعض هواة السياسة هذا الموقف من قيس سعيد، وفاجأ بعض غير المطلعين على الانحراف الذي يطبع سياسات قيس سعيد هذا التحول. وبعض المترصدين، بسبب وبدون سبب، لنجاحات المغرب وجدوها فرصة لتبخيس الأداء الدبلوماسي المغربي الذي يستحيل إنكار نجاحاته ولو كان المنكر جاحدا وأعمى لأن عشرات الوقائع والأدلة تؤكده. والحقيقة أن اتجاه سياسات قيس سعيد كان واضحا وانحيازه للبوليساريو وتموقعه ضد المغرب ومصالحه كان منتظرا، ولا يتوقع من رئيس انقلب على دستور بلاده ولا يخفي ميوله للحكم الفردي ولم ينجح إلا في استعداء كل القوى التونسية والانعزال عن الشعب التونسي أن يفكر بمنطق سليم في مصالح التوانسة ويتعامل بدبلوماسية ناجعة مع كل جيرانه.
    يشكل منطق القطيعة مع الماضي عقدة عند قيس سعيد تجعله لا يميز بين الغث والسمين في ماضي تونس التي راكمت دبلوماسيتها حكمة وحنكة في التعامل مع ملف الصحراء المغربية انتصارا للحق ودعما لتخفيف التشنجات في المحيط المغاربي، وهو ما ضربه قيس سعيد بعرض الحائط بتصرفه العدائي المجاني ضد المغرب.
    يمكن لقراء هذا البوح الرجوع لما كتبته أكثر من مرة حول تونس ما بعد بنعلي والتحذيرات التي أطلقتها في الكثير من المناسبات إلى درجة التأكيد على أن تونس ما بعد بنعلي تعيش تخبطا ولم يوصل حكامها البلاد إلى شاطئ الأمان بل أغرقوها في أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وهوياتية قاتلة، ولكن فترة حكم قيس سعيد سرعت هذا الانحدار والانحراف ووضعت البلاد في عزلة ورهنتها لجنرالات الجزائر. أصبحت هذه حقيقة يتخوف منها التوانسة ويتهامسون بها سخرية بأن تونس في عهد قيس سعيد أصبحت الولاية 59 للجزائر التي اشترتها بقروض صغيرة ووعود كبيرة لن تخرجها من أزمتها. أزمة تونس أكبر من أن تحصر في قلة الاعتمادات المالية لأنها أزمة بنيوية تجد أساسها في فشل النخبة التونسية في التوصل إلى نظام حكم يتلاءم مع طبيعتها بعد فشل النظام البرلماني، وفاقمها قيس سعيد بنقلها إلى نظام حكم رئاسوي يتولاه شخص غير سوي تنقصه كاريزما رجل الدولة القادر على احتضان التوانسة والحياد تجاه مختلف الفاعلين وعدم وضعها في عزلة دولية وعدم رهنها لمن يدفع أكثر.
    تجسدت الميولات العدائية لقيس سعيد منذ الشهور الأولى لتوليه رئاسة تونس من خلال الزيارات المتبادلة مع تبون الجزائر في فبراير 2020 ودجنبر 2021 والتي استفاد فيها من قرض 300 مليون دولار وكان هذا إيذانا بإعلان اصطفاف مع نظام الجزائر ورهن تونس لخيار لن يكرس إلا عزلتها، وبدا قيس وكأنه يريد الانتقام من المغرب الذي ساند الخيار التونسي ودعمه بزيارة تاريخية سنة 2014 كان لها وقعا إيجابيا سياسيا واقتصاديا في وقت كانت تواجه فيه البلاد موجة إرهابية أرخت بظلالها على السياحة في البلد. ولم يتخلف قيس سعيد في رد الجميل لنظام الجزائر عند أول فرصة حيث وظف مقعد تونس في مجلس الأمن، في سابقة غريبة من دولة عربية، سنة 2021 ضد مصالح المغرب بالامتناع عن التصويت لصالح قرار مجلس الأمن بشأن تمديد عمل المينورسو لمدة سنة إضافية محدثا انقلابا في الموقف التونسي من هذا النزاع المفتعل، ثم استمر قيس سعيد في رهن البلاد وشعبها للجزائر بحضوره المستهجن جنبا إلى جنب مع زعيم البوليساريو في رسالة واضحة إلى المغاربة أنه اختار الولاء للجزائر عوض الحياد الإيجابي الذي كانت عليه تونس.
    يظن بعض المتنطعين أن المغرب ظل صامتا تجاه هذه المواقف التونسية، وأنه تجاهلها أو لم يسلك المسالك الضرورية لتصحيح هذا الخطأ. ويتناسى هؤلاء طبيعة قيس سعيد وميولاته وشعبويته وتقلبه وقصر نظره وحاجته إلى إنجازات، ولو وهمية، لتخفيف حدة الأزمة التي يعرف أنه سيكتوي بنارها عاجلا أو آجلا. ولذلك يستغربون موقف المغرب وحدته من إقدام قيس على استقبال زعيم الانفصاليين بشكل رسمي.
    يتناسى الطوابرية أن المغرب صبر على حماقات قيس سعيد ثلاث سنوات وسلك كل المسالك لتخفيف أضرار اختياراته الغريبة على المغرب، ووصل إلى خلاصة أن المنطق يقف عاجزا أمام تصرفات رئيس متقلب وغامض وغريب الأطوار، وأن وثيرة استعدائه للمغرب تتسارع وتتسع، وقد وصلت درجة غير مسبوقة وغير مبررة ولا يمكن التطلع إلى إصلاحها بغير الكي باعتباره آخر الدواء، وقد اتضح هذا جليا في رد الخارجية التونسية المضطرب والمليء بالأكاذيب والتضليل.
    تعسف قيس سعيد على كل الحقائق لتسويغ إشراك البوليساريو رغم أن اليابان المسؤولة عن تيكاد وصاحبة الاختصاص في تحديد المشاركين لم توجه الدعوة لهذا الكيان المزروع وسط الجزائر لأنها أدرى بأن لا مصلحة وراء مشاركته. فما هو الأثر المرجو من حضور كيان يستوطن أرضا جزائرية؟ هل هو الاستفادة من استثمارات في ارض جزائرية؟ أم ترى نفسها قادرة على جلب هذه الاستثمارات لمنطقة لا وجود لها عليها؟ أم هي الرغبة في المساعدات؟ وهل تحلم البوليساريو بمساعدات وسمعتها سيئة في صرفها وتحديد المستفيدين منها؟ أم المقصود من دعوتها فقط إنقاذ حكام الجزائر الذين راكموا إخفاقات تضعهم في حرج تجاه الجزائريين؟
    ما الجدوى من استقبال شخص بصفة لا تعترف بها تونس؟ وعلى متن طائرة جزائرية؟ وتحت مظلة وفد دولة أخرى؟ ألا يذكر هذا السلوك بما سبق وقامت به اسبانيا عندما استقبلت هذا الشخص بهوية مزورة؟ ألم يطلع قيس على موقف المغرب تجاه اسبانيا ومآلات هذا الموقف؟ هل كان يستبعد تعاملا مغربيا مماثلا أم أنه كان مستعدا له؟ هل كان يظن أنه بهذه الخطوة سيحيي بن بطوش من موت سياسي يعيشه منذ مدة؟
    لا تحتمل خطوة قيس سعيد غير استهداف المغرب لمصلحة الجزائر بأداة تونسية ارتضى قيس أن يكون منفذها دون الانتباه أنه يضع البلاد كلها في معادلة خاسرة. ولا يمكن إدراج هذه الخطوة إلا في خانة تقديم خدمة للبوليساريو لتسويق انتصار وهمي على المغرب تغطي به سلسلة هزائمها.
    بحسابات الربح والخسارة، تونس هي الخاسر الأول والأخير من خطوة قيس سعيد. لقد كرس قيس عزلته من خلالها وأكد منطقه الانقلابي على خيارات تونس، وحرك ضده معارضة واسعة، وأضاع على تونس حيادها الذي كان قيمة مضافة للاتحاد المغاربي الذي تحتضن مقره وهذه مناسبة لتحريك هذا الملف بعد هذا الانحياز، ووضعها في خصومة مجانية مع المغرب، وأفقدها سيادتها وعرضها في سوق النخاسة مقابل حفنة مساعدات لن تخرجها من وضعها المأزوم، وأضعف نفسه تجاه معارضيه وتجاه جنرالات الجزائر، وأفشل قمة تيكاد التي لم تكن مخرجاتها في مستوى الانتظارات، وأثبت أن المغرب رقم مهم في القارة الإفريقية لا يمكن تجاوزه.
    أكد قيس أنه ليس رجل دولة ولا يتقن فن الحساب السياسي ولا يستحضر في قراراته كل العوامل اللازمة لاتخاذ قرارات مصيرية، وبدا إلى الهواية والقصور أقرب حين باع حياد تونس بقرض قيمته 200 مليون دولار متناسيا أنه يهين الشعب التونسي بأكمله بهذا الاختيار.
    مصالح تونس مع المغرب كثيرة، وقيس عرضها لمخاطر قد يتضرر منها التوانسة. والرد الشعبي للمغاربة على سلوك قيس بين أنهم لا يتسامحون تجاه من يستهدف الوحدة الترابية للمغرب، والمنطقي هو تجسيد هذا الغضب الشعبي في الخطوات الرسمية التي تميز بين الشعب التونسي والرئيس الذي لم يكن يمثله بأي حال من الأحوال في هذا التصرف الانقلابي وكذا مواقف النخبة التونسية التي عكست أواصر الصداقة مع المغرب.
    لن ينجر المغرب إلى استعداء الشعب التونسي وسائر نخبه التي تبرأت من سلوك قيس سعيد، ولن يسقط المغرب في فخ من ينتعش في هذه الخلافات ويريد من خلالها إضعاف المنطقة ليتسنى له إخضاع دولها لأن للمغرب خيار استراتيجي يراهن على إحياء اتحاد المغرب العربي، ولن يسمح لهذا التصرف الأرعن أن يمر بدون رد يكون عبرة لكل من تسول له نفسه استسهال الإساءة للمغرب والمغاربة. ولينتظر من كان وراء هذا القرار تبعات تهوره.
    ولأن مثل هذه اللحظات مصيرية في تحديد طينة الناس ومعادنها، فقد كشفت إلى جانب المعدن الأصيل للمغاربة بمختلف فئاتهم حقيقة الطوابرية وعدم تمييزهم بين الاعتراض على سياسات والاصطفاف ضد الوطن. وجد الطوابرية الفرصة مواتية لبث سمومهم وتصويب سهامهم إلى الوجهة الخطأ متناسين أنهم يستعدون المغاربة ويضعون أنفسهم خارج التاريخ والجغرافيا التي يعلنون انتماءهم لها ويتنكرون للقيم الوطنية الجامعة بين الأمة المغربية. كشف هذا الحادث مرة أخرى الخواء المعرفي للطوابرية الذين يقلبون كل الحقائق للانتصار لتحليلات شاذة وشاردة عن السياق يعرون بها أنفسهم أمام المغاربة.
    يستسهل شيخ الطوابرية وصف المغرب بأنه دولة “سلكوطة” لأنه لا يعي دلالات ما يقول، ويعبر الطوابري الباحث عن النجومية والحاقد على الوضع الذي يعيشه بعبارة لا تقل سفاهة عنها بأنه دولة مارقة، ويبذل طوابري ثالث مجهودا لإيجاد مسوغات لقرار قيس سعيد ليثبت أن المغرب خاطئ، وتكذب طوابرية على التاريخ حين يطبع كل كلامها منطق المؤامرة التي صنعها المغرب بهذا الحدث. اختلفت هرطقاتهم جميعا ولكن تشابهت قلوبهم المريضة والمثخنة بالحقد ضد كل ما هو جميل في هذا المغرب الشامخ.
    للأسف، ارتضى قيس سعيد وضع تونس في موضع السمسرة والمتاجرة بها في سوق المزايدات، وصار يظن أنه لن يحقق مكاسب إلا بالإساءة إلى المغرب. ماكرون، الذي لم تمض سوى ساعات على زيارته الفاشلة للجزائر والتي يعلم قبل غيره محدودية الانتظارات منها باستثناء تأمين تدفقات الغاز نحو بلاده وأوربا، انتبه أنه لن يبتز المغرب بهذه الزيارة وأنه ملزم مثل غيره من الشركاء بالصراحة والوضوح تجاه المغرب يلجأ إلى خطوة إيجابية تجاه تونس تمثلت في زيارة عمل قامت بها رئيسة الحكومة التونسية إلى باريس بدعوة من مجمع مؤسسات فرنسا MEDEF وأعقبها قرار وزير الداخلية الفرنسي دارمانان عودة إصدار التأشيرات إلى المستوى الطبيعي بأثر فوري بعد سنة من تقليص عدد المستفيدين من تأشيرات الدخول لفرنسا.
    يستحق التوانسة وغيرهم هذا الحق بدون نقاش، وتقييده لم يكن مبررا، وكان سببه اشتراطات غير منطقية على الدول المغاربية بتحمل أوزار لا علاقة لهم بها وبقبول تسلم مواطنين فرنسيين من أصول مغاربية لا ترغب فرنسا في إبقائهم داخل ترابها مع العلم أنهم ليسوا مغاربيين سوى من جهة الأصول وسلوكهم المتطرف تتحمله التنشئة الفرنسية أساسا.
    يضر هذا السلوك بفرنسا، ويظهرها بمظهر المراهق سياسيا إن لم نقل الصبياني، ويضعها في خانة الابتزاز والمقايضة مع الدول بحق من حقوق الإنسان مما يشوه صورة فرنسا عصر الأنوار ومهد حقوق الإنسان التي رسخت في عقول أجيال. هل يصح أن تتعامل فرنسا بمكيالين مع دول المنطقة؟ هل يقبل منها أن تضيق على المغاربة وتمتنع عن منحهم التأشيرات رغم استيفائهم شروط الحصول عليها؟ هل تظن فرنسا أنها بهذا المنطق ستخضع المغرب؟ أم أنها تلعب على حبل تثوير المغاربة؟
    وكالعادة، يخطئ الطوابرية المناسبة لإظهار وطنيتهم ودفاعهم عن مصالح المغاربة ويصمتون عن هذا الخرق الحقوقي الذي يتضرر منه مغاربة بدون وجه حق. هل الصمت حكمة أم تواطؤ في هذا المقام؟ وهل موقع المعارضة يستلزم عدم الاعتراض على سياسات فرنسا التمييزية ضد المغاربة؟ وهل هناك من تفسير آخر لهذا الصمت والتجاهل غير الخوف من غضب الدولة العميقة في فرنسا الحامية لهم؟
    في مثل هذه المناسبات لا تنفع إلا الصراحة ولا يصح إلا منطق الأسود والأبيض وكل من يختار المنطقة الرمادية يضع نفسه بوضوح في صف معاد للمغاربة.
    أتيحت خلال هذا الأسبوع مناسبتان لقياس وزن فرنسا وحجمها. المناسبة الأولى من خلال المجلس الوزاري الافتتاحي للدخول السياسي بعد انتهاء العطلة الصيفية والذي دق فيه ماكرون ناقوس الخطر حول الأزمات التي تحيط بفرنسا داخليا مؤكدا على أن زمن الوفرة انتهى وأن الوضع يتطلب جهودا وتضحيات. والمناسبة الثانية تجلت في الاجتماع السنوي الدوري لماكرون بقصر الإليزيه مع سفراء بلاده والذي عرض فيه الخطوط العريضة للدبلوماسية الفرنسية. لقد بدا ماكرون منزعجا من التحولات العالمية التي تسير عكس مصالح فرنسا ولم يتوقف عن التنبيه للمخاطر المحدقة بفرنسا والمهددة لوجودها الدولي ولم يخف أن فرنسا مستهدفة وتحارب على أكثر من واجهة، ولم تخف اللغة الدبلوماسية وعرض المنجزات والنبرة التفاؤلية حقيقة القلق المخيم على صناع القرار في الإليزيه والكي دورسيه.
    ما يتجاهله ماكرون هو أن حصيلة اليوم هي نتيجة طبيعية لسياسات فرنسا غير العادلة ومنطقها الازدواجي وعدم وفائها لالتزاماتها تجاه شركائها التقليديين ورغبتها في احتكار الشركاء لنفسها وعدم تقبلها للاعتراف بأن زمن الاستعمار ولى. مشكلة فرنسا أنها ألفت ضمان ولاء شركائها بسياسة فرق تسد، وهي سياسة قديمة ولم يعد لها مفعول لأن العالم تغير ومراكز القوة فيه تعددت وشعوب الدول الشريكة تقليديا لفرنسا صارت أكثر وعيا بهذا الأسلوب الفرنسي ولذلك لم تلق زيارة ماكرون للجزائر ترحيبا شعبيا لأن جدول أعمالها لم يكن متوافقا مع انتظارات الشعب الجزائري، ولم يلق الانسحاب الفرنسي من مالي ترحيبا لأن شعب مالي لم ينظر مطلقا لفرنسا على أنها تقوم بمهام إنسانية داخل ترابها، وهو الأمر نفسه في مناطق كثيرة من العالم. وللأسف، ما تزال فرنسا متشبثة بنفس الأسلوب التمييزي بين شركائها ظنا منها أنها تضغط على الدول بهذا الأسلوب.
    تخضع قرارات المغرب تجاه شركائه لمعيار أوحد هو مصلحة المغاربة. ومخطئ من يظن أنه قادر على ابتزاز المغرب بقرارات تمييزية لأنه هو الذي يتضرر منها قبل غيره وتتأثر بها سمعته وسط المغاربة في عالم لم يعد هناك منفذ واحد لدخول ناديه الكبير من أوسع الأبواب. وستكتشف فرنسا أنها خاطئة في حق المغرب وأن المغاربة لا يطلبون سوى شراكة متكافئة واحتراما متبادلا واعترافا بسيادة مغربية على ترابه كاملا غير منقوص، وحينها لن تجد من المغرب سوى ما هو معهود عنه من تعاون على أرضية المصالح المتبادلة بمعادلة رابح رابح.
    لا يقتصر المنطق الابتزازي على فرنسا الرسمية، بل تعداه إلى جوزيب بوريل ممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوربي الذي، وعلى غير العادة وبشكل مفاجئ، غرد خارج السرب وبرأي لا يعبر عن حقيقة موقف الاتحاد الأوربي ليعادي الوحدة الترابية للمغرب.
    ولأن الدبلوماسية المغربية منسجمة مع خياراتها ومبادئها وعقيدتها فقد كان لزاما مصارحة بوريل بحقيقة انحيازه لموقف معزول وغير مقبول ممن يتولى مهام حساسة في الاتحاد الأوربي. لم يتأخر الرد المغربي الذي أعلن أن زيارة بوريل المبرمجة غير مناسبة.
    أذكر بهذه المواقف الزئبقية والاستفزازية التي يدفع ثمنها الاتحاد الأوربي ودوله في ظرفية حساسة وسياق ضاغط على هذا الاتحاد الذي أضاع أكثر من فرصة لإثبات أنه قوة مؤثرة وليس قوة تابعة. ومناسبة هذا التذكير هي رحيل غورباتشوف آخر الرؤساء السوفييت الذي كان قد أهدى لأوربا هدية ثمينة لم تحسن استغلالها لتتموقع كصانعة للنظام العالمي. احتفل الأمريكان والأوربيون برحيل غورباتشوف ولكن استفادة أمريكا من سياسات البيريسترويكا كانت أكبر. وتجاهل بوتين وفاة غورباتشوف الذي كان يكن له عداوة وحمله مسؤولية انهيار الاتحاد السوفييتي ولذلك لم يستحق منه حدادا وجنازة رسمية وحضور مراسيم دفنه.
    تباكى ماكرون في خطابه أمام سفراء بلاده على أوربا القوية وعلى العالم غير المتوازن ولكنه لم يسائل نفسه مع قادة أوربا عن أسباب هذا الضعف الأوربي، ولم يجب لحد الساعة عن أسباب تفضيل البريطانيين للبريكست مما زاد من ضعف أوربا الضعيفة أصلا.
    أوربا الضعيفة والمنقسمة على نفسها على أبواب شتاء بارد وتواجه تحديات كبيرة. روسيا تخفض إمداداتها من الغاز عبر خط ستريم وتقطع الإمداد لمدة ثلاثة أيام عبره، وتقطع الإمداد الكامل على فرنسا منذ فاتح شتنبر، وأسعار المحروقات ترتفع من جديد، ومعاناة المواطنين تتزايد، والتضخم يبلغ مستويات قياسية، والاحتجاجات تتنامى وتنذر بتداعيات على مستقبل ما ستفرزه صناديق الاقتراع في كل الانتخابات القادمة في دول الاتحاد إن استمرت معاناة الأوربيين بهذا الشكل.
    هل دعوات شولتز وماكرون لوحدة أوربا قد تجد آذانا صاغية؟ وهل يمكن للتضامن الأوربي في مجال الطاقة أن ينجح؟ وهل بهذه السهولة يمكن تناسي الانقسام الذي عرفته دول الاتحاد أثناء جائحة كورونا والأنانية التي طبعت بعض دوله بخصوص اللقاحات؟ وهل الحلول الفردية لدول الاتحاد تخدم مستقبله؟ وهل يمكن للغاز الجزائري أن يسد الخصاص كما ظن ماكرون؟
    أثبت الواقع في أكثر من مناسبة أن الحلول الفردية هي الحل السهل الذي تفضله بعض دول الاتحاد، كما أثبتت التجارب السابقة أن الاتحاد مجرد فاعل ثانوي تابع لإرادة الأمريكيين، وأنه لم يستطع تحسين موقعه والاستفادة من عناصر القوة المتاحة لدوله لتقوية دوره في النظام العالمي الذي يتشكل منذ جائحة كورونا على الأقل. ومن أهم الأسباب أن الاتحاد الأوربي ودوله لم تستثمر في شعوب العالم لتقدم نموذجا لقوة سياسية واقتصادية وتجارية بحمولة أخلاقية وإنسانية تتبنى خيارات من أجل عالم متوازن ومؤنسن.
    الحمد لله أن المغرب يعي جيدا كل هذه التحولات ويأخذها بعين الاعتبار، ونتائج سياساته جعلته في موقع القوة الهادئة التي تحسن استثمار موقعه ومكانته وما يملكه لما يخدم السلم والتعاون العالمي بانفتاح على كل القوى ودون الانغلاق على خيار واحد.
    نلتقي في بوح قادم.

  • المصدر: شوف تي في
    تعليقات الزوّار (0)

    *

    التالي