فرنسا في قلب عاصفة حقوقية بعد حراك باريس

فرنسا في قلب عاصفة حقوقية بعد حراك باريس

A- A+
  • كشفت السلطات الفرنسية عن حصيلة أحداث الشغب التي عرفتها العاصمة باريس وباقي المحافظات الفرنسية، أول أمس السبت، مُعددة خسائرها المادية في احتراق 112 سيارة ومركبة في ملك الدولة والخواص،و130 من التجهيزات الحضرية المملوكة للجماعات الترابية، فضلا عن اندلاع أكثر من 248 حريقا في مناطق مختلفة، من بينها الحريق الذي اندلع في مقر إحدى المحافظات الفرنسية (Préfecture de Département).

    أما الخسائر البشرية والتوقيفات التي باشرتها السلطات الفرنسية، فقد تم حصرها في 263 إصابة متفاوتة الخطورة، سواء في صفوف قوات حفظ النظام أو في أوساط أصحاب السترات الصفراء، في حين بلغ عدد الموقوفين في هذه الفئة الأخيرة 678 شخصا، من بينهم 412 في مدينة باريس فقط، بينما ناهز عدد الأشخاص المحتفظ بهم تحت تدبير الحراسة النظرية في العاصمة ما مجموعه 378 مشتبها به.

  • وإذا كانت السلطات الفرنسية قد أحجمت عن ذكر الخسائر المادية الباهظة التي طالت المحلات التجارية والماركات العالمية ومؤسسات الائتمان والبنوك، إلا أن الصور والتسجيلات التي نشرتها وسائل الإعلام كانت كافية لتقدير حجم الخسائر المادية الناجمة عن أحداث الشغب المتصاعد، دون أن ننسى طبعا الخسائر الأخرى التي لا يمكن تقييمها ماديا ويصعب جبر الضرر المترتب عنها، والمتمثلة في تخريب وإتلاف بعض التماثيل والتحف التاريخية داخل مبنى قوس النصر، والتي تصنف كجزء من تاريخ فرنسا ومن التراث الثقافي الإنساني.

    وفي محاولة للمقارنة بين “حراك باريس” إن صح هذا الوصف، ما دام أن الأمر يتعلق بتدافع عرضي للمتجمهرين نحو الشوارع العامة، وبين الأحداث التي شهدتها مدينة الحسيمة وضواحيها في أعقاب الوفاة المؤسفة لبائع السمك محسن فكري في 28 أكتوبر 2016، فإننا نجدهما يلتقيان في قواسم مشتركة عديدة، مثلما تفرقهما أيضا تباينات وتباعدات كثيرة ومتنوعة.

    فنقط التقاطع بين “حراك باريس” و”حراك الحسيمة”، تتمثل أساسا في (مشروعية المطالب ولا سلمية الاحتجاج)، فكلاهما سرعان ما انتقل من السلمية كشعار إلى المواجهات المفتوحة والاصطدام المباشر مع قوات حفظ النظام كممارسة وكسلوك، وهو ما خلّف خسائر مادية باهظة وأضرارا جسدية مهمة، في ضرب صارخ للقول المأثور القائل : ” إن نبل الغاية لا يمكن أن يغني عن شرعية الوسيلة”.

    كما أن أحداث فرنسا المسجلة يوم السبت المنصرم، والمتمثلة في إضرام النار في مقر إحدى المحافظات وبداخلها العديد من الموظفين، مع منع رجال المطافئ وعناصر الوقاية المدنية وسيارات الإسعاف من الوصول إلى مكان التدخل، تعيد للأذهان أحداثا مماثلة ومتطابقة شهدتها مدينة إمزورن المغربية في مارس 2017، حين أضرم المتجمهرون النار في بناية تأوي عناصر الشرطة، بإيعاز من “قادة الحراك الميدانيين”، كما تم وضع متاريس وحواجز في الطرقات العامة لمنع سيارات الإسعاف من بلوغ مكان الحريق، وهو ما تسبب وقتها في إصابة أكثر من 90 شرطيا مغربيا باختناقات وجروح وخسائر مادية بملايين الدراهم في المعدات والتجهيزات المملوكة للدولة.

    لكن رغم تطابق هذه الأحداث، في أسلوبها الإجرامي، إلا أننا لم نرصد خروج الصحافة الفرنسية أو المؤسسات الحقوقية والمنظمات المدنية والأحزاب السياسية لوسم أحداث باريس المؤسفة بأنها تجليات “الربيع الفرنسي” أو “دينامية الاحتجاج”، كما لم تقم أية جهة كيفما كانت، سياسية أو مجتمعية، بوصف مضرمي النار بأنهم ” نشطاء” أو “متظاهرين” أو ” قادة”، مثلما ادعت ذلك منظمة هيومان رايتس ووتش عند حديثها عن مفتعلي الشغب بالحسيمة وضواحيها، أو كما قامت بذلك أوساط في الصحافة الفرنسية عند تعليقها على الأحداث المسجلة بالمغرب.

    وفي مقابل هذه القواسم المشتركة، تتباعد أحداث باريس عن نظيرتها في الحسيمة في العديد من المؤشرات الإحصائية والرقمية. ففي يوم واحد تعتقل السلطات الفرنسية 678 شخصا، وهو رقم يتجاوز إجمالي عدد الأشخاص الموقوفين في أحداث الحسيمة وضواحيها منذ انطلاقها! ومع ذلك، لم يخرج أي حزب سياسي أو مؤسسة منبثقة عن ميثاق باريس للهيئات الناشطة في حقوق الإنسان للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، أو وسم اعتقالهم بالتعسفي، أو التماس تقييد الصلاحيات الواسعة الممنوحة لرئيس الجمهورية.

    وبالرغم من أن المقاطع والتسجيلات المصورة المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي، والمنشورة على أعمدة الصحافة الفرنسية والدولية، تٌظهر استخدام العنف أثناء تفريق التجمهرات، وبالرغم كذلك من أن العديد من المقاطع المصورة توثق لسيلان دماء المتجمهرين على ِإسفلت باريس وباقي المحافظات…إلا أن الجميع يلتف على هذه الحقائق، ويطالب في المقابل بتطبيق قانون الطوارئ لاحتواء هذه الأحداث، وهو ما يعني المطالبة بمزيد من الحزم القانوني في مواجهة تلك الأحداث، وليس العكس!

    لا أحد هنا يطالب بالتضييق على هامش الحريات أو تقييد حرية التعبير والاحتجاج، أو يدافع عن المقاربة الأمنية في مواجهة التجمهرات والاحتجاجات في الشوارع العامة. لكن عندما يتم وصف المتجمهرين ب”النشطاء” و” قادة الحراك” و” أبطال الريف”، كما يقوم بذلك بعض الأشخاص والأوساط عندما يتعلق الأمر بالمغرب، لاعتبارات سياسية وإيديولوجية ضيقة، فإنهم يكرسون وقتها ظاهرة الإفلات من العقاب، ويقرّبون الزيت من النار ويذكون فتيل المواجهات المسؤولة عن تخريب الممتلكات العامة والخاصة…ولكم في الصحافة الفرنسية وسياسييها أبلغ مثال على هذا التوجه، حيث لم يجرؤ أي واحد منهم على نعت مضرمي النار بالأبطال والقادة الميدانيين.

    حري بالتذكير ختاما، أن ممارسة الاحتجاج في الشارع العام هي مسألة بالغة التعقيد والحساسية، فهي تحتاج إلى تأطير كبير من جانب ممارسي هذا الحق تفاديا لاندلاع موجة العنف والشغب، كما تحتاج إلى تحفظ كبير وعدم الانسياق وراء الاستفزازات من جانب قوات حفظ النظام. وبين ممارسة حرية الاحتجاج ومزاولة مهمة التدخل الأمني، تطرأ في كثير من الدول مواجهات عنيفة تَركنُ معها السلطات العمومية إلى إعمال القانون، بعيدا عن أي مزايدات أو حسابات ضيقة تخدم فئات معينة على حساب المصلحة العامة للبلد.

    لكن في المغرب، كلّما وقعت تجمهرات خارجة عن نطاق القانون، يُصبح المتجمهر بطلا وقياديا ورمزا من رموز الكفاح، وتنبري بعض الأوساط للحديث عن القبضة الأمنية والمطالبة بمراجعة صلاحيات وزارة الداخلية، ويكثر المحللون في قناة “فرانس 24” الذين يُشنّفون أسماع المشاهد بالتحاليل والمناقشات، بيد أن لا أحد منهم اعتلى منبر هذه القناة الأخيرة، ليصدح بنفس التحاليل وذات التعليقات، وهو يعلق على أحداث باريس المؤسفة!

  • المصدر: شوف تي في
    تعليقات الزوّار (0)

    *

    التالي
    عزيز أخنوش رئيس الحكومة يتباحث مع المدير العام لمنظمة العمل الدولية