ربورطاج…فاجعة بوسلهام.. حكايات حقوق مهضومة وأجور زهيدة وجروح نساء لا تندمل

ربورطاج…فاجعة بوسلهام.. حكايات حقوق مهضومة وأجور زهيدة وجروح نساء لا تندمل

A- A+
  • ما زالت أجساد العاملات الزراعيات تتساقط الواحد تلو الآخر على الطرقات الوطنية كأوراق الخريف، فبعد الحوادث المميتة التي راحت ضحيتها عشرات النسوة اللواتي أخرجتهن لقمة العيش باشتوكة أيت بها ليعدن ملفوفات بالأكفان، جاءت حادثة أخرى لا تقل عنها فجاعة، حيث استيقظت، صبيحة يوم أمس الأربعاء 4 أبريل، ساكنة مولاي بوسلهام ومعها الرأي العام المغربي على وقع وفاة 8 نساء وسائق عربة لنقل اليد العاملة بإحدى الضيعات الفلاحية نواحي القنيطرة، وذلك بعد اصطدام قوي بين شاحنة لنقل الرمال وعربة تقل عاملات زراعيات، ليتركن غصة مؤلمة في حلق أسرهن وعائلاتهن التي ستتجرع مرارة الفراق، كما اعتادت عند كل فاجعة، وتحمل ظروف الحياة الصعبة، ليبقى شبح مسلسل حمام دماء العاملات الزراعيات مستمرا إلى أجل غير مسمى، يتربص بضحايا أخريات، في حال لم تتدخل الجهات المعنية لإيجاد حلول جذرية تحترم كرامة هؤلاء النساء، وتوفر لهن شروط السلامة في طريق بحثهن عن لقمة العيش.

  • سرعة مفرطة وغياب لعلامات التشوير

    أشارت جل إفادات الشهود الذين حضروا حادثة السير المفجعة بـ”بوسلهام” إلى أن السبب الرئيسي في وقوع هذه الكارثة الإنسانية يعود بالأساس إلى السرعة المفرطة التي كان يقود بها سائق الشاحنة، والتي قال بعضهم إنها تجاوزت المائة كيلومتر في الساعة في طريق مهترئة وضيقة، تغيب فيها علامات التشوير وتحديد السرعة، وهو ما جعله يصطدم بقوة بسيارة “muni bus” كانت محملة بعشرات النساء اللواتي يشتغلن بالفلاحة، وبالضبط بجني فاكهة “التوت” في إحدى الضيعات الفلاحية، لينتهي بهن المصير بين عجلات شاحنة حولت أجسادهن المتعبة من ظروف الحياة القاهرة لأشلاء متناثرة على قارعة الطريق، في مشهد مأساوي يجسد الكرامة الإنسانية المغتصبة.

    وطالب مجموعة من سكان المنطقة، التي وقعت فيها الحادثة، الجهات المعنية بضرورة إيجاد حل للمسلك الطرقي الذي عرف الحادثة، وذلك بتوسيعه ووضع علامات تشوير على جنباته تفاديا لوقوع حوادث ومآسي إنسانية مماثلة في مستقبل الأيام، بالنظر إلى الحركة الدؤوبة التي يشهدها صباح مساء.

    9 وفيات و 21 جريحا

    خلفت الفاجعة الطرقية لـ”بوسلهام” وفاة سائق العربة التي تقل العاملات الزراعيات و 5 نساء على الفور، فيما بلغ عدد الجرحى حوالي 24 جريحا أغلبهن نساء نقلن على وجه السرعة نحو مستشفى القرب أربعاء الغرب، حيث تلقين الإسعافات الأولية هناك، قبل أن يتقرر نقلهن نحو مستشفى القنيطرة بأمر من وزير الصحة “أنس الدكالي”، ومن ثم للمستشفى العسكري بالرباط، بعد صدور أوامر ملكية بضرورة نقلهم والتكفل بعلاجاتهم على نفقته الشخصية، فيما تم نقل جثث الضحايا التي ازدادت لتبلغ 9 وفيات، بعدما توفيت 3 مصابات أخريات ساعات قليلة بعد وصولهن للمستشفى متأثرات بجروحهن البليغة.

    وأكد الطبيب المشرف على حالات الضحايا أن حالة اثنتين فقط مستقرة، فيما لا تزال الباقيات تحت العناية المركزة نظرا لوضعهن الصحي المحرج، تاركات وراءهن قلوبا تخفق وعيونا تدمع وأيادي تتضرع لله، سائلة الشفاء لهن من خلف أبواب المستشفى الذي يرقدن فيه.

    حقوق مهضومة وأجور زهيدة

    لا يتجادل اثنان حول أن جل العاملات بالمجال الفلاحي وخاصة الضيعات الفلاحية يعشن أوضاعا اجتماعية جد مزرية دفعت بهن للاستيقاظ مع أولى خيوط الصبح لإمتطاء “بيكوبات” وعربات تلتهم الطرقات المتآكلة تحت جنح الظلام، للوصول إلى حقول تنعدم فيها أبسط شروط الكرامة الإنسانية، مقابل أجور بالكاد تكفي لدفع ثمن إيجار غرفة وسط مدينة الدار البيضاء، فما بالك بسد حاجة أبناء نخر الجوع بطونهم حتى التصقت بظهورهم.

    “سيري الله يعطيك…” هي عبارة من العبارات الكثيرة التي ما فتئت تتردد على مسامع العاملات الزراعيات، والتي عنوانها القذف والإهانة التي يطلقها ما يصطلح عليهم في قاموس عدد من الضيعات الفلاحية بـ “الكابرانات”، فأول ما يفتتح به المرء نهاره حينما تطأ قدماه بوابة “الفيرمة” هي عبارات السب والشتم التي يستقبله بها من هو أعلى منه مرتبة وراتبا، وما على سامعها سوى أن يصم أذنه لساعات معدودة مقابل ضمان استمرارية عمله داخل الحقول، والحصول على 80 درهما في نهاية يوم تقوس فيه ظهره بسبب الانحناء طوال النهار، وفق تعبير أحمد الذي سبق له الاشتغال بالضيعة الفلاحية، حينما كان طالبا بسلك الإجازة لإعانة نفسه على التحصيل والمعرفة داخل مدرجات الكلية.

    “باش تصور طرف دلخبز لابد من أنك تسمع لي يسوى ولي ما يسوى وتسمع المعيور وتدير بحال إلا راك صمك ها باش ميجري عليك الكابران”، تقول فتيحة ذات الأربعين سنة، والتي فرض عليها رحيل الزوج العمل وسط الضيعات الفلاحية مقابل دراهم معدودة، لا تكفيها لسد مختلف المصاريف اليومية من تغذية وملبس وكراء، وفق قولها.

    ومن جانبه، يؤكد الفاعل المدني “م.س” أن أغلب العاملات الزراعيات يشتغلن وفق ظروف وأوضاع غير قانونية، فأغلبهن غير مصرح بهن ضمن صندوق الضمان الاجتماعي، ويعملن خارج القانون، إذ لا يتوفرن على عقود عمل تضمن لهن حقوقهن، فأصحاب الضيعات الفلاحية لا يحترمون قانون الشغل ومضامينه، ويشغلون غالبية اليد العاملة بدون أوراق قانونية، وخارج الضوابط المتعارف عليها في مدونة الشغل، حيث يدفعهم الجشع لامتصاص ما تبقى من دماء العاملين لديهم.

    وأشار ذات المتحدث أن هذا الخرق القانوني يدفع العمال والعاملات الزراعيين ثمنه، خاصة حينما تقع حادثة شغل معينة لا يتم تعويضهم في الغالب، ويجدون أنفسهم بدون تغطية صحية وتعويضات عائلية، ولا يمنحهم مشغلهم أي وثيقة تثبت صلتهم بملاك الضيعات الفلاحية، فحسب الإحصائيات الأخيرة فإن حوالي نسبة 6 في المائة فقط هي نسبة اليد العاملة بالضيعات الفلاحية المصرح بها والتي تشتغل بشكل قانوني.

    أجساد مكدسة داخل عربات تفوح منها رائحة الموت

    هنا مدينة “أيت عميرة” التي تبعد عن أكادير بنحو 30 كيلومترا والتي يشتغل معظم سكانها النشيطون في المجال الفلاحي، خاصة بالضيعات الفلاحية ووحدات التلفيف المنتشرة بالمنطقة بشكل كبير، وتعد المنطقة من أهم المناطق المصدرة للحوامض والخضر بالمغرب.

    الساعة تشير إلى الرابعة صباحا، جلبة غير معهودة بالشارع الرئيسي وأزقة المنطقة التي تلفظ نساء وفتيات في مقتبل العمر يسرن في مجموعات، ملثمات بمناديل لا تظهر من وجوههن سوى العيون، التي مازال النوم يداعب جفونها، وحتم عليهن القدر الخروج للبحث عن لقمة العيش وسط صناديق من البلاستيك “لاصيرات”، حيث تجتمع النساء في ركن مظلم أطلقن عليه اسم “الموقف” بعدما اتفقن على الالتقاء فيه مع إطلالة كل فجر في انتظار سيارات وشاحنات تقلهن إلى مقرات عملهن، منذ الساعات الأولى من الصباح.

    ما أن تظهر “البيكوب”، ويطلق سائقها صفارة شبيهة بإعلان حالة طوارئ، حتى تتراءى لك الأجساد تتسابق وتتدافع خلف الشاحنة الصغيرة للظفر بمقعد مريح نوعا ما وسطها، والمحظوظات منهن من ينعمن بمكان دافئ بالداخل، والتعيسات منهن من يتركن وجوههن عرضة للفحات البرد الصباحي القارس، الذي يوجه لهن صفعات تجعل وجوههن محمرة، إلى أن يصلن إلى بوابة الضيعة، في حال وصولهن بالطبع، وعدم انقلاب وسيلة نقلهن مع أول منعرج يصادفه السائق في طريقه، كما وقع في كثير من المناسبات التي خلفت وراءها مجموعة من القتلى والمعطوبات، مثلما حدث يوم أمس بمنطقة “بوسلهام”، ومن قبلها اشتوكة أيت بها، التي تشكل حصة الأسد من هذه الفواجع الطرقية.

    مطالب بتحسين الظروف الاجتماعية

    لعل المآسي المتوالية للعاملات الزراعيات التي تتساقط تباعا بمختلف مناطق المغرب تستوجب وقفة تأمل لدق ناقوس الخطر حول أوضاع هذه الفئة، التي ما زالت تشتغل خارج قانون الشغل وتخضع لأهواء ملاك الضيعات الفلاحية ونزواتهم، التي تقذف بكل من يعترض طريقها خارج أسوار الضيعة ويجد نفسه بدون عمل، وفق إفادات الكثير ممن اشتغلوا بهذه الضيعات.

     

    وأمام هذه الوضعية “السوداء”، التي ما زالت تعتري هذا المجال تعالت العديد من الأصوات المنادية بتدخل الدولة لتقنين عمل العاملات الزراعيات وتطبيق مدونة الشغل بحذافيرها، بما يضمن لهن أجورهن وحقوقهن الكاملة بعيدا عن التمييز والإهانة التي يتعرضن لها في كثير من الأحيان، علاوة على فرض قيود صارمة على أصحاب الضيعات الفلاحية لإجبارهم على تسجيل المشتغلات بالفلاحة ضمن صناديق الضمان الاجتماعي والتأمين على حوادث الشغل، مع إجبارية فرض عقوبات زجرية على كل من سولت له نفسه انتهاك حرمة النساء المغربيات اللواتي ضقن ذرعا بالمعاملات السيئة لأرباب الضيعات وبمآسي الطرقات نحو حقول العمل.

  • المصدر: شوف تي في
    تعليقات الزوّار (0)

    *

    التالي
    الأمير مولاي رشيد ترأس مأدبة عشاء أقامها الملك على شرف المدعوين