الذي قتل الشاب نائل ليس الشرطي الفرنسي

الذي قتل الشاب نائل ليس الشرطي الفرنسي

A- A+
  • ما تكاد فرنسا ماكرون تخرج من ورطة حتى تدخل في واحدة أكبر منها، الفرنسيون واعون بأن سبب أزماتهم المتتالية هو سياسة الرئيس الفرنسي ومحيطه المتحكم في صناعة القرار بالجمهورية، فقد كشف استطلاع للرأي أجراه مؤخرا معهد “إيفوب فيديسيال” أن غالبية الفرنسيين اعتبروا أنفسهم “خاسرين” وليسوا “فائزين” في السياسة المتبعة بفرنسا منذ انتخاب إيمانويل ماكرون في العام 2017، فبعد مظاهرات السترات الصفر وأزمة ملف التقاعد، ها هي فرنسا تبدو مثل طنجرة ضغط، المواجهة فيها هي بين المهمشين في الضواحي والدولة ومؤسساتها، في عز الموسم السياحي الذي تستقطب فيه باريس أكبر عدد من سياح العالم، اندلعت الاحتجاجات والمظاهرات العنيفة التي تجاوزت سقف كل التظاهرات السابقة بسبب عنفها واستهدافها للشرطة وللمباني الحكومية، وأكدت رئاسة الوزراء أنها لا تستبعد سن حالة الطوارئ.
    يصعب أن نعيد سبب اندلاع هذه المواجهة وأشكال الشغب غير المسبوق إلى قتل الطفل نائل البالغ من العمر 17 عاماً، على يد شرطي خلال عملية تفتيش مروري، بضاحية «نانتير» الباريسية، على خطورة هذا الفعل الشنيع الذي اعتبره الرئيس الفرنسي ذاته عملا غير مبرر، إذ كان يمكن لعملية اعتقال الشرطي وإحالته على التحقيق، واستنكار ماكرون لهذا الفعل الإجرامي أن يوقف أحداث الشغب بدل أن يزيد في شعلتها لتمس مدنا عديدة غير باريس.. إن الذي قتل الطفل نائل حقا ليس شرطي المرور وإنما النظام الذي أدخل جمهورية الحرية والإخاء والمساواة إلى مستنقع الكراهية والعنصرية والتطرف وتحول رئيس فرنسا إلى رهينة في يد الدولة العميقة وبينها جهاز الشرطة الفرنسي. أبرزت الوقائع أن فرنسا تفقد قيمها الأصيلة كأرض للتعدد والحوار والاعتراف المتبادل، وكرست السياسة الخرقاء للرئيس الفرنسي خاصة في عهد ولايته الثانية، عزلة فرنسا دوليا بعد فشله في الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، وتصفية الوجود الفرنسي في القارة السمراء وعزل باريس عن تأثيرها لا داخل الاتحاد الأوربي ولا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا… وها هو الوضع الداخلي الذي زادت من حدته سياسة الطيش لدى الرئيس ماكرون وحاشيته تفجر أشكال الحقد العنصري والكراهية، بدليل أن أوساطا متطرفة جمعت تبرعات لفائدة الشرطي الفرنسي المتورط في قتل الشاب نائل تجاوزت أكثر من 650 ألف يورو، أي ما يعادل 650 مليون سنتيم إلى حدود مساء اليوم الأحد الأخير، في الوقت الذي لم تجمع حملة تبرعات لدعم والدة الشاب نائل، سوى مبلغ لا يتعدى 80 ألف أورو (80 مليون سنتيم).
    حملة جمع التبرعات لفائدة الشرطي القاتل طرحت بشدة تساؤلات أخلاقية وقانونية عميقة على التوجهات الجديدة في المجتمع الفرنسي التي تفسر في جزء كبير منها حجم العنف الذي ساد في احتجاجات فرنسا الأخيرة. إذ حسب وزارة الداخلية فقد أضرم المتظاهرون النيران في 871 موقعاً عاماً، و577 سيارة، وألحقوا أضراراً بـ74 مبنى في خمسة أيام فقط من الاحتجاج، إذ كيف يتم جمع تبرعات لقاتل دون مراعاة مشاعر عائلة الضحية؟ وكيف لا يتعاطف المجتمع الفرنسي مع الضحية ويميل للتضامن مع الجلاد؟ هل هذه هي فرنسا الثورة وقيمها؟ هل هذه هي فرنسا العدالة والإخاء والمساواة والحرية والتسامح والتعدد؟
    وبعد أن تأثر الوضع الداخلي بسياسة إيمانويل ماكرون الخارجية التي عزلت فرنسا عن موقعها الدولي الوازن في أكثر من بقعة من العالم، ها هي أوضاع الجمهورية الفرنسية الداخلية المضطربة تؤثر على موقعها ووزنها الخارجي، فللمرة الثّانية في غضون أشهر، أجل الرئيس الفرنسي زيارة دبلوماسية ذات رهانات كبيرة. فبعد أن أجّلت زيارة العاهل البريطاني تشارلز الثالث إلى باريس في نهاية شهر مارس الماضي، بطلب من ماكرون بسبب الاحتجاجات الرافضة لإصلاح نظام التقاعد المثير للجدل، اضطر ماكرون، إلى تأجيل زيارة الدولة التي كان من المقرر أن يقوم بها إلى ألمانيا، في إطار تعزيز الصداقة الفرنسية الألمانية، التي تشوبها تصدّعات كثيرة، و كان الرئيس الفرنسي قد قطع زيارته إلى بروكسيل لحضور القمة الأوروبية حول أوكرانيا، الأكثر من هذا وفي سابقة من نوعها، دعت منظمة الأمم المتحدة فرنسا إلى «معالجة مشاكل العنصرية والتمييز في صفوف قوات الأمن»، الأمر الذي أغضب وزارة الخارجية الفرنسية، التي ردت بأن «استخدام القوة من قبل الشرطة والدرك يخضع لمبادئ الضرورة والتناسب، تحت إشراف ورقابة صارمة».
    فرنسا ماكرون في وضع لا يحسد عليه، وعليها أن تعالج سياسة رئيسها الحالي لعلها تنقذ نفسها مما روج له المتطرفون حول الحرب الأهلية، وإذا ما استمر ماكرون في اللعب بمستقبل أرض الثورة وقيم حقوق الإنسان فإن الجمهورية مفتوحة على كل الاحتمالات السيئة، لكننا نؤمن بأن أرض كورنيه وسارتر وكامو وموليير هوجو… قادرة على تجاوز عطب السياسة الصغرى لرئيس لن يحفظ له التاريخ سوى أنه أوصل الجمهورية إلى الحضيض.

  • المصدر: شوف تي في
    تعليقات الزوّار (0)

    *

    التالي
    الداكي يوقع على مذكرة تفاهم بين رئاسة النيابة العامة بالمغرب ونظيرتها الروسية